Published
0 161 0
و لنذكر الآن تفسير حقيقة النبؤة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شان العرافين و غير ذلك من مدارك الغيب فنقول إعلم. أرشدنا الله و إياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب و الإحكام و ربط الأسباب بالمسببات و اتصال الأكوان بالأكوان و استحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك و لا تنتهي غاياته و أبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني و أولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض و كل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً و هابطاً و يستحيل بعض الأوقات و الصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك و هو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط و بها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها و أوضاعها و ما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش و ما لا بذر له و آخر أفق النبات مثل النخل و الكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون و الصدف و لم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط و معنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده و اتسع عالم الحيوان و تعددت أنواعه و انتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر و الروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس و الإدراك و لم ينته إلى الروية و الفكر بالفعل و كان ذلك أول أفق من الإنسان بعده و هذا غاية شهودنا ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعةً ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك و العناصر و في عالم التكوين آثار من حركة النمو و الإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام فهو روحاني و يتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في و جودها و لذلك هو النفس المدركة و المحركة و لا بد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك و الحركة و يتصل بها أيضاً و يكون ذاته إدراكا صرفاً و تعقلاً محضاً و هو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات و ذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد و يكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه فلها في الاتصال جهتا العلو و السفل و هي متصلة بالبدن من أسعف منها و تكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل و متصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة و مكتسبة به المدارك العلمية و الغيبية فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان و هذا على ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته و قواه بعضها ببعض ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان و آثارها ظاهرة في البدن فكأنه و جميع أجزائه مجتمعةً و مفترقةً آلات للنفس و لقواها أما الفاعلية فالبطش باليد و المشي بالرجل و الكلام باللسان و الحركة الكلية بالبدن متدافعاً و أما المدركة و إن كانت قوى الإدراك مرتبة و مرتقيةً إلى القوة العليا منها و من المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة فقوى الحس الظاهرة بآلاته من السمع و البصر و سائرها يرتقي إلى الباطن و أوله الحس المشترك و هو قوة تدرك المحسوسات مبصرةً و مسموعةً وملموسةً و غيرها في حالة واحدة و بذلك فارقت قوة الحس الظاهر لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال و هي قوة تمثل الشي المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط و آلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ مقدمه للأولى و مؤخرة للثانية ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة و الحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد و صداقة عمرو و رحمة الأب و افتراس الذئب و الحافظة لإبداع المدركات كلها متخيلةً و هي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها و آلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ أوله للأولى و مؤخره للأخرى ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر و آلته البطن الأوسط من الدماغ و هي القوة التي يقع بها حركة الرؤية و التوجه نحو التعقل فتحرك النفس بها دائماً لما ركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة و الاستعداد الذي للبشرية و تخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهةً بالملإ الأعلى الروحاني و تصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية فهي متحركة دائماً و متوجهة نحو ذلك و قد تنسلخ بالكلية من البشرية و روحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة و الفطرة الأولى في ذلك.