Published
0 184 0
الفصل الخامس و الأربعون: في علوم اللسان العربي أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة. و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق. علم النحو اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. و تلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في الغصو الفاعل لها و هو اللسان و هو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. و كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات و أوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف و مثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. و أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب. و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. فصار للحروف في لغتهم. و الحركات و الهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا. فلما جاء الإسلام و فارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم و الدول و خالطوا المجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين. و السمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع. و خشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا و يطول العهد بها فينغلق القرآن و الحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات و القواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام و يلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا و تسمية الموجب لذلك التغير عاملا و أمثال ذلك. و صارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب و جعلوها صناعة لهم مخصوصة. و اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. و أو ل من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة و يقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد و كان الناس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة و كمل أبوابها. و أخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها و استكثر من أدلتها و شواهدها و وضع فيها كتابه المشهور الدي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي و أبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثم طال الكلام في هذه الصناعة و حدث الخلاف بين أهلها في الكوفة و البصرة المصرين القديمين للعرب. و كثرت الأدلة و الحجاج بينهم و تباينت الطرق في التعليم و كثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد و طال ذلك على المتعلمين. و جاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل و أمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل و ابن الحاجب في المقدمة له. و ربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى و الصغرى و ابن معطي في الارجوزة الألفية. و بالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها و طرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. و الكوفيون و البصريون و البغداديون و الأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك. و قد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم و الصنائع بتناقص العمران و وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة و مفصلة. و تكلم على الحروف و المفردات و الجمل و حذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابه و سماه بالمغني في الإعراب. و أشار إلى نكت إعراب القرآن كلها و ضبطها بأبواب و فصول و قواعد انتظم سائرها فوقفنا منع على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة و وفور بضاعته منها و كأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني و اتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته و اطلاعه. و الله يزيد في الخلق ما يشاء. علم اللغة هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية و ذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب و استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم و مخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنه المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس و ما ينشا عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا فيه الدواوين. و كان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين فحصر فيه فركبات حروف العجم كلها من الثنائي و الثلاثي والرباعي و الخماسي و هو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي. و تأتي له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة و ذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة و عشرين و هو دون نهاية حروف العجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة و العشرين فتكون سبعة و عشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة و العشرين كذلك. ثم الثالث و الرابع. ثم يؤخذ السابع و العشرون مع الثامن و العشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة و عشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب و هو أن تجمع الأول مع الأخير و تضرب المجموع في نصف العدة. ثم تصاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم و التأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات. و تخرج الثلاثيات من صرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالى العدد لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية و هي ستة و عشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالي العدد و يضرب فيه جملة الثنائيات. ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف العجم. و كذلك في الرباعي و الخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه و رتب أبوابه على حروف العجم بالترتيب المتعارف. و اعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم بعده من خروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة و جعل حروف العلة آخرا و هي الحروف الهوائية. و بدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا و هو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات و الألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل و كان المهمل في الرباعي و الخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله و لحق به الثنائي لقلة دورانه و كان الإستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. و ضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين و استوعبه أحسن استيعاب و أوعاه. و جاء أبو بكر الزبيدي و كتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب و حذف منه المهمل كله و كثيرا من شواهد المستعمل و لخصه للحفظ أحسن تلخيص. و ألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف العجم فجعل البداءة منها بالهمزة و جمل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف العجم أيصا و يترجم عليها بالفصول إلى آخرها. و حصر اللغة اقتداء بحصر الخليل. ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب و على نحو ترتيب كتاب العين. و زاد فيه التعرض لاشتقاتات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين. و لخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. و قلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم و بناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم و سليلي أبوة و لكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، و لابن دريد كتاب الجمهرة و لابن الأنباري كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. و هناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم و مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها. إلا أن وجه الحصر فيها خفي و و في الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. و من الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز سماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ و فيما تجوزت به من المدلولات و هو كتاب شريف الإفادة. ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا، و بين الوضع و الاستعمال و احتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب و من الإنسان بالأزهر و من الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيص في هذه كلها لحنا و خروجا عن لسان العرب. و اختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي و أفرده في كتاب له سماه فقه اللغة و هو من أكد ما بأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. و أكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه و نثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها و تراكيبها و هو أشد من اللحن في الإعراب و أفحش. و كذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة و تكفل بحصرها و إن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر. و أما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت و الفصيح لثعلب و غيرهما. و بعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. و الله الخلاق العليم لا رب سواه. فصل: و اعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وصغوها لأنه متعذر و بعيد. و لم يعرف لأحد منهم. و كذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله. على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. و ليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل، و هو محكم، و على هذا في جمهور الأئمة. و إن مال إلى القياس فيها القاضي و ابن سريح و غيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. و لا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني. ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، و اللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، و الفرق في غاية الظهور. علم البيان هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية و اللغة، و هو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ و ما تفيده. و يقصد بها الدلالة عليه من المعاني و ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند و مسند إليها و يفضي بعضها إلى بعض. و الدالة على هذه هي المفردات من الأسماء و الأفعال و الحروف و إما تمييز المسندات من المسند إليها و الأزمنة. و يدل عليها بتغير الحركات من الإعراب و أبنية الكلمات. و هذه كلها هي صناعة النحو. و يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين و ما يقتضيه حال الفعل و هو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة و إذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. و إذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع و لكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب و الإبانة. ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه و من قال: زيد جاءني أفاد أن اهتمامة بالشخص قبل المجيء المسند. و كذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة. و كذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم و أن زيدا قائم و إن زيدا لقائم متغايرة كلها في الدلالة و إن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد أنما يفيد الخالي الذهن و الثاني المؤكد بإن يفيد المتردد و الثالث يفيد المنكر فهي مختلفة. و كذلك تقول: جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه و أنه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية و هي التي لها خارج تطابقه أولا، و إنشائية و هي التي لا خارج لها. كالطلب و أنواعه. ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب: فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا و توكيدا و بدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب و الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفظ و لا يراد منطوقه و يراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة و إنما تريد شجاعته اللازمة و تسندها إلى زيد و تسمى هذه استعارة. و قد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير الرماد و تريد ما لزم ذلك عنه من الجود و قرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما في دالة عليهما. و هذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد و المركب و إنما هي هيئات و أحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال و هيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي هي للهيئات و الأحوال و المقامات و جعل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيآت و الأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البلاغة، و الصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي و ملزومه و هي الاستعارة و الكناية كما قلناه و يسمى علم البيان. و ألحقوا بهما صنفا آخر و هو النظر في تزيين الكلام و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس. يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منة لاشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك و يسمى عندهم علم البدء. و أطق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان و هو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول من تكلموا فيها ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى و كتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و قدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه على نحو ما ذكرناه أنفا من الترتيب و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو و التصريف و البيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. و أخذه المتأخرون من كتابه و لخصوا منه أمهات قي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان و ابن مالك في كتاب المصباح و جلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح و التلخيص و هو أصغر حجما من الإيضاح و العناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح و التعليم منه أكثر من غيره. و بالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة و سببه و الله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية و الصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. و المشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم و هم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري، و هو كله مبني على هذا الفن و هو أصله. و إنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البدء خاصة، و جعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، و فرغوا له ألقابا و عدوا أبوابا و نوعوا أنواعا. و زعموا أنهم أحصوها من لسان العرب و إنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، و العلم البديع سهل المأخذ. و صعبت عليهم مآخذ البلاغة و البيان لدقة أنظارهما و غموض معانيهما فتجافوا عنهما. و ممن ألف في البدء من أهل أفريقية ابن رشيق و كتاب العمدة له مشهور. و جرى كثير من أهل أفريقية و الأندلس على منحاه. و اعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة و مفهومة و هي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها و جودة رصفها و تركيبها. و هذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. و إنما يدرك بغض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي و حصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوة من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام و جهابذته و الذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون و أصحه. و أحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون و أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جاز الله الزمخشري و وضع كتابه في التفسير و تتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. و لأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة و شارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها و لا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع و الأهواء. و الله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل. علم الأدب هذا العلم لا موضع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. و إنما المقصود منة عند أهل اللسان ثمرته، و هي الاجادة في فني المنظوم و المنثور، على أساليب العرب و مناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة. من شعر عالي الطبقة، و سجع متساو في الإجادة، و مسائل من اللغة و النحو مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. و كذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة و الأخبار العامة. و المقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب و أساليبيهم و مناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمة. ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها و الأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط و هي القرآن و الحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم و ترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها. و سمعنا من شيوخنا في مجالسى التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين و هي أدب الكتاب لابن قتيبة و كتاب الكامل للمبرد و كتاب البيان و التبيين للجاحظ و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. و ما سوى هذه الأربعة فتبع لها و فروع عنها. و كتب المحدثين في ذلك كثيرة. و كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. و كان الكتاب و الفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر و فنونه فلم يكن انتحالة قادحا في العدالة و المروءة. و قد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولتهم. و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه. و لعمري إنه ديوان العرب و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها و أنى له بها. و نحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. و الله الهادي للصواب.