قطار الجبال يقودني كل ليلة إلى بستان عالٍ في خضرة و أمان و ماء جارٍ و أحنّ إلى رائحة أمي و قطعة كسرة معجونة بزيت الزيتون و قدر حساء أحن إلى أبي راجعا من سوق الخميس البعيد و إلى يديه الرهيفتين تحملان قفة يطل من أعلاها رأس ديك رومي و في آخر النهار يجلس أبي ليحتسي قهوته بالقرب من قطنا النائم تحت فرن الدار أحن إلى تلك الليالي المظلمات أين ينقطع فجأة تيار الكهرباء هنالك يتحول أبي إلى ممثل رائع يحملنا بخياله تارة إلى قصور و حدائق فيها عيون و أشجار رمان و تارة إلى حروب أدبية فرسانها مدح و هجاء و صولة شجعان إلى طرائف تبكينا ضحكا ، أبطالها رفاق شبابه و هم يتلاعبون ببائع الكتان و أغمض عيني لأبحر في ذاكرتي بحثا عن ذالك الدكان قضى فيه أبي ثلاثين عاما ، يبيع كتبا مرقعة أو يقرأ تفسير المعاني و في المولد يأتينا بشموع ملونة ، و بخور و عطر أقحوان و يوقظني مراقب القطار ، و أعطيه تذكرتي بعد ثوان يودعني بشكر ديبلوماسي و أبغضه لأنه أعادني إلى زماني مات أبي في الشتاء ، و أصبح دكانه تبغا و كبريتا و أشرطة للأغاني و كلما اتخذتني بنيتي حصانا لها و أنا ساجد للرحمن تذكرت ذلك الشيخ البسيط الذي لازم صوته آذاني لا تركنن لطاغية يا ولدي و إلاّ فأنت إذا جبان كنت أقول له يا أبي البلد مستقل و قد مضى وقت الأحزان و رئيسنا من جلدتنا فلِم كل هذا الكلام عن الطغيلن ؟ و يرد عليّ : يا ولدي النار وراء كل دخان و إني ليحزنني أن أرى أراذل القوم غدا يتطاولون في البنيان لا تركنن لطاغية يا ولدي و إلا فأنت إذا جبان مات أبي بعد أن دخل الكلاب إلى البلاد و اقتلعوا زهور حديقتنا و شجرة الرمان و أحرقوا كتاب أبي المرقع ، و فجأة انقطع تيار الكهرباء لا تركنن لطاغية يا ولدي ، و إلاّ فأنت إذا جبان لا زال يرددها عليّ حتى ظننت أنه سيورثني ملكا و جنان