الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما يوحد للمتوحشين في القفر من العرب و من في معناهم و ذلك لما اختصوا به من نكد العيش و شظف الأحوال و سوء المواطن حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة و هي لما كان معاشهم من القيام على الإبل و نتاجها و رعايتها و الإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره و نتاجها في رماله كما تقدم و القفر مكان الشظف و السغب فصار لهم إلفاً و عادة و ربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقاً و جبلة فلا ينزع إليها أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم و لا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله و أمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم و فسادها و لا تزال بينهم محفوظة صريحة و اعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة و ثقيف و بني أسد و هديل و من جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف و مواطن غير ذات زرع و لا ضرع و بعدوا من أرياف الشام و العراق و معادن الأدم و الحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط و لا عرف فيها شوب. و أما العرب الذين كانوا بالتلول و في معادن الخصب للمراعي و العيش من حمير و كهلال مثل لخم و جذام و غسان و طي و قضاعة و إياد فاختلطت أنسابهم و تداخلت شعوبهم ففي كل واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس ما تعرف و إنما جاءهم ذلك من قبل العجم و مخالطتهم و هم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم و شعوبهم و إنما هذا للعرب فقط. قال عمر رضي الله تعالى عنه ( تعلموا النسب و لا تكونوا كنبط السواد ) إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع الناس على البلد الطيب و المراعي الخصيبة فكثر الاختلاط و تداخلت الأنساب و قد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنسرين جند دمشق جند العواصم و انتقل ذلك إلى الأندلس و لم يكن لاطراح العرب أمر النسب و إنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها و صارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم و غيرهم و فسدت الأنساب بالجملة و فقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل و دثرت فدثرت العصبية بدثورها و بقي ذلك في البدو كما كان و الله وارث الأرض و من عليها.