الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه و أهل عصبيته بالموالي و المصطنعين إعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته و ظهراؤه على شأنه و بهم يقارع الخوارج على دولته و منهم يقلد أعمال مملكته و وزارة دولته و جباية أموله لأنهم أعوانه على الغلب و شركاؤه في الأمر و مساهموه في سائر مهماته هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه فإذا جاء الطور الثاني و ظهر الاستبداد عنهم و الانفراد بالمجد و دافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه و احتاج في مدافعتهم عن الأمر و صدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم و يتولاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم و أخص به قرباً و اصطناعاً و أولى إيثاراً و جاهاً لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم و الرتبة التي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدولة و يخصهم بمزيد التكرمة و الإيثار و يقسم لهم ما للكثير من قومه و يقلدهم جليل الأعمال و الولايات من الوزارة و القيادة و الجباية و ما يختص به لنفسه و تكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون و نصحاؤه المخلصون و ذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة و علامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها.
و مرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان و عداوة السلطان فيضطغنون عليه و يتربصون به الدوائر و يعود وبال ذلك على الدولة و لا يطمع في برئها من هذا الداء لأنه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن ذهب رسمها و اعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم و ولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي و قاص و عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف و المهلب بن أبي صفرة و خالد بن عبد الله القسري و ابن هبيرة و موسى بن نصير و بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري و نصر بن سيار و أمثالهم من رجالات العرب و كذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد و كبح العرب عن التطاول للولايات صارت الوزارة للعجم و الصنائع من البرامكة و بني سهل بن نوبخت و بني طاهر ثم بني بويه و موالي الترك مثل بغا و وصيف و أثلمش و باكناك و ابن طولون و أبنائهم و غير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها و العز لغير من اجتلبه سنة الله في عباده و الله تعالى أعلم.