الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد و حصول الترف و الدعة أقبلت الدولة على الهرم و بيانه من وجود الأول أنها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه و مهما كان المجد مشتركاً بين العصابة و كان سعيهم له واحداً كانت هممهم في التغلب على الغير و الذب عن الحوزة أسوةً في طموحها و قوة شكائمها و مرماهم إلى العز جميعاً يستطيبون الموت في بناء مجدهم و يؤثرون الهلكة على فساده و إذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم و كبح من أعنتهم و استأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو و فشل ربحهم و رئموا المذلة و الاستعباد ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجراً من السلطان لهم عن الحماية و المعونة لا يجري في عقولهم سواه و قل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهناً في الدولة و خضداً من الشوكة و تقبل به على مناحي الضعف و الهرم لفساد العصبية بذهاب البأس من أهلها. و الوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه فتكثر عوائدهم و تزيد نفقاتهم على أعطياتهم و لا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك و المترف يستغرق عطاءه بترفه ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف و عوائده و تمسهم الحاجة و تطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو و الحروب فلا يجدون وليجةً عنها فيوقعون بهم العقوبات و ينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم و صنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم و يضعف صاحب الدولة بضعفهم و أيضاً إذا كثر الترف في الدولة و صار عطاؤهم مقصراً عن حاجاتهم و نفقاتهم احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم و يزيح عللهم و الجباية مقدارها معلوم و لا تزيد و لا تنقص و أن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدوداً فإذا وزعت الجباية على الأعطيات و قد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم و كثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات ثم يعظم الترف و تكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية و ثالثاً و رابعاً إلى أن يعود العسكر إلى أقل الأعداد فتضعف الحماية لذلك و تسقط قوة الدولة و يتجاسر عليها من يجاوزها من الدول أو من هو تحت يديها من القبائل و العصائب و يأذن الله فيها بالفناء الذي كتبه على خليقته و أيضاً فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر و السفسفة و عوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك و دليلاً عليه و يتصفون بم يناقضها من خلال الشر فيكون علامة على الإدبار و الانقراض بما جعل من ذلك في خليقته و تأخذ الدولة مبادئ العطب و تتضعضع أحوالها و تنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضي عليها. الوجه الثالث أن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه و إذا اتخذوا الدعة و الراحة مؤلفاً و خلقاً صار لهم ذلك طبيعةً و جبلةً شأن العوائد كلها و إيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش و مهاد الترف و الدعة و ينقلب خلق التوحش و ينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس و تعود الافتراس و ركوب البيداء و هداية القفر فلا يفرق بينهم و بين السوقة من الحضر إلا في الثقافة و الشارة فتضعف حمايتهم و يذهب بأسهم و تنخضد شوكتهم و يعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس من ثياب الهرم ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف و الحضارة و السكون و الدعة و رقة الحاشية في جميع أحوالهم و ينغمسون فيها و هم في ذلك يبعدون عن البداوة و الخشونة و ينسلخون عنها شيئاً فشيئاً و ينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية و المدافعة حتى يعودوا عيالاً على حامية أخرى أن كانت لهم و اعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحاً من غير ريبة و ربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف و الراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً و شيعةً من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب و أقدر على معاناة الشدائد من الجوع و الشظف و يكون ذلك دواءً للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره و هذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق فإن غالب جندها الموالى من الترك فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً و جنداً فيكونون أجراً على الحرب و أصبر على الشظف من أبناء المماليك الذين كانوا قبلهم و ربوا في ماء النعيم و السلطان و ظله و كذلك في دولة الموحدين بأفريقية فإن صاحبها كثيراً ما يتخذ أجناده من زناتة و العرب ويستكثر منهم و يترك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك غفراً آخر سالماً من الهرم و الله وارث الأرض و من عليها.