الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك و الأوطان لا تزيد عليها و السبب في ذلك أن عصابة الدولة و قومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصاً على الممالك و الثغور التي تصير إليهم و يستولون عليها لحمايتها من العدو و إمضاء أحكام الدولة فيها من جباية و ردع و غير ذلك فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور و الممالك فلا بد من نفاد عددها و قد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة و تخماً لوطنها و نطاقاً لمركز ملكها فإن تكفلت الدولة بعد ذلك زيادةً على ما بيدها بقى دون حاميةً و كان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو و المجاور و يعود وبال ذلك على الدولة بما يكون فيه من التجاسر و خرق سياج الهيبة و ما كانت العصابة موفورة و لم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثغور و النواحي بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية حتى ينفسح نطاقها إلى غايته و العلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية و كل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها و الدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف و النطاق و إذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت و أقصرت عما وراءه شأن الأشعة و الأنوار إذا انبعثت من المراكز و الدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه ثم إذا أدركها الهرم و الضعف فإنما تأخذ في التناقص من جهة الأطراف و لا يزال المركز محفوظاً إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز و إذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف و النطاق بل تضمحل لوقتها فأن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح فإذا غلب على القلب و ملك انهزم جميع الأطراف و انظر هذا في الدولة الفارسية كان مركزها المدائن فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع و لم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه و بالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام لما كان مركزها القسطنطينية و غلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية و لم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلى أن تأذن الله بانقراضه و انظر أيضاً شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام و العراق و مصر لأسرع وقت ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند و الحبشة و أفريقية و المغرب ثم إلى الأندلس فلما تفرقوا حصصاً على الممالك و الثغور و نزلوها حامية و نفد عددهم في تلك التوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد و انتهى أمر الإسلام و لم يتجاوز تلك الحدود و منها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها و كذا كان حال الدول من بعد ذلك كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة و عند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح و الاستيلاء سنة الله في خلقه.