الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك المذلة للقبيل و الانقياد إلى سواهم و سبب ذلك أن المذلة و الانقياد كاسران لسورة العصبية و شدتها فإن انقيادهم و مذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة و المطالبة و اعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام و أخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكهم كيف عجزوا عن ذلك و قالوا:” إن فيها قوماً جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها” أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا و تكون من معجزاتك يا موسى و لما عزم عليهم لجوا و ارتكبوا العصيان و قالوا له:” اذهب أنت و ربك فقاتلا” و ما ذلك إلا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة و المطالبة كما تقتضيه الآية و ما يؤثر في تفسيرها و ذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد و ما رئموا من الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم و أن العمالقة الذين كانوا بأريحا فريستهم بحكم من الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك و عجزوا تعويلاً على ما في أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق المذلة و طعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك و ما أمرهم به فعاقبهم الله بالتيه و هو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام و مصر أربعين سنة لم يأووا فيها العمران و لا نزلوا مصراً و لا خالطوا بشراً كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام و القبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه و يظهر من مساق الآية و مفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة و هي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل و القهر و القوة و تخلقوا به و أفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام و القهر و لا يساهم بالمذلة فنشأت بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة و التغلب و يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل و نشأة جيل آخر سبحان الحكيم العليم و في هذا أوضح دليل على شأن العصبية و أنها هي التي تكون بها المدافعة و المقاومة و الحماية و المطالبة و أن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله و لحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم و الضرائب فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه لأن في المغارم و الضرائب ضيماً و مذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلا إذا استهونته عن القتل و التلف و أن عصبيتهم حينئذ ضعيفة عن المدافعة و الحماية و من كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة و المطالبة و قد حصل له الانقياد للذل و المذلة عائقة كما قدمناه. و منه قوله صلى الله عليه و سلم شأن الحرث لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار” ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل “فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للذلة هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر و الخديعة بسبب ملكة القهر فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر و من هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يودون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك و هو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم ملك و لا تمت لهم دولة و انظر فيما قاله شهر براز ملك الباب لعبد الرحمن بن ربيعة لما أطل عليه و سأل شهر براز أمانه على أن يكون له فقال أنا اليوم منكم يدي في أيديكم و صعري معكم فمرحباً بكم و بارك الله لنا و لكم و جزيتنا إليكم النصر لكم و القيام بما تحبون و لا تذلونا بالجزية فتوهونا لعدوكم فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كاف.