Published
0 225 0
المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة و الطيش و كثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر و السبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح و السرور هي انتشار الروح الحيواني و تفشيه و طبيعة الحزن بالعكس و هو انقباضه و تكاثفه. و تقرر أن الحرارة مفشية للهواء و البخار مخلخلة له زائدة في كميته و لهذا يجد المنتشي من الفرح و السرور مالا يعبر عنه و ذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة العزيزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح و تجيء طبيعة الفرح و كذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها و اتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك حدث لهم فرح و ربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور. و لما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار و استولى الحر على أمزجتهم و في أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم و إقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً و سروراً و أكثر انبساطاً و يجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر و أشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح و الخفة موجودة أكثر من بلاد التلول و الجبال الباردة و قد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها و في هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف و التلول و اعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم و الخفة و الغفلة عن العواقب حتى أنهم لا يدخرون أقوات سنتهم و لا شهرهم و عامةً مأكلهم من أسواقهم. و لما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن و كيف أفرطوا في نظر العواقب حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة و يباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم و البلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء و الله الخلاق العليم و قد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان و طيشهم و كثرة الطرب فيهم و حاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس و يعقوب بن إسحاق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم و ما نشأ عنه من ضعف عقولهم و هذا كلام لا محصل له و لا برهان فيه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.