Published
0 189 0
الفصل الرابع و الأربعون في أن الحجاب كيف يقع في الدول و في أنه يعظم عند الهرم اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأته لابد لها من العصبية التي بها يتم أمرها و يحصل استيلاؤها و البداوة هي شعار العصبية و الدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك و إن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك و مذاهبه فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة و البداوة و القرب من الناس و سهولة الإذن فإذا رسخ عزه و صار إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامة ما استطاع و يتخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه و أهل دولته و يتخذ حاجبا له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثم إذا استفحل الملك و جاءت مذاهبه و منازعه استحالت أخلاق صاحب الدولة إلى أخلاق الملك و هي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها و معاملتها بما يجب لها و ربما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا و صاروا إلى حالة الانتقام منة فانفرد بمغرفة هذه الآداب الخواص من أوليائهم و حجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على الناس من التعرض لعقا بهم فصار حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء و بحجب دونه من سواهم من العامة. و الحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء و يحجب دونه من سواهم من العامة. و الحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية و عبد الملك و خلفاء بني أمية و كان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جريا عل مذهب الاشتقاق الصحيح. ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف و العز ما هو معررف و كملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني و صار اسم الحاجب أخص به و صار بباب الخلفاء داران للعباسية: دار الخاصة و دار العامة كما هو مسطور في أخبارهم. ثم حدث في الدولة حجاب ثالث أخص من الأولين و هو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة و ذلك أن أهل الدولة و خواص الملك إذ نصبوا الأبناء من الأعقاب و حاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنة بطانة ابنه و خواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة و فساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير و يعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه و هذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر و يكون دليلا على هرم الدولة و نفاد قوتها و هو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدولة و ذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك و خصوصا مع الترشيح لذلك و حصول دواعيه و مباديه.