Ibn Khaldoun (ابن خلدون) - Al Muqaddima Part 77: الفصل 28 في انقلاب الخلافة إلى الملك lyrics

Published

0 171 0

Ibn Khaldoun (ابن خلدون) - Al Muqaddima Part 77: الفصل 28 في انقلاب الخلافة إلى الملك lyrics

الفصل الثامن و العثسرون في انقلاب الخلافة إلى الملك إعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود و ترتيبه كما قلناه من قبل و أن الشرائع و الديانات و كل أمر يحل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه. فالعصبية ضرورية للملة و بوجودها يتم أمر الله منها و في الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية و ندب إلى إطراحها و تركها فقال: إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء أنتم بنو آدم و آدم من تراب، و قال تعالى” إن أكرمكم عند الله أتقاكم “و وجدناه أيضاً قد ذم الملك و أهله و نعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق و الإسراف في غير القصد و التنكب عن صراط الله و إنما حض على الإلفة في الدين و حذر من الخلاف و الفرقة، و أعلم أن الدنيا كلها و أحوالها مطية للآخرة و من فقد المطية فقد الوصول، و ليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله و تعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً و تتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه و سلم: “من كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه” فلم يذم الغضب و هو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق و بطل الجهاد و إعلاء كلمة الله و إنما يذم الغضب للشيطان و للأغراض الذميمة فإذا كان الغصب لذلك كان مذموماً و إذا كان الغضب في الله و لله كان ممدوحاً و هو من شمائله صلى الله عليه و سلم و كذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه و إنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية و كذا العصبية حيث ذمها الشارع و قال “لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم” ، فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل و أحواله كما كانت في الجاهلية و أن يكون لأحد فخر بها أو حق على أحد لأن ذلك مجال من أفعال العقلاء و غير نافع في الآخرة التي هي دار القرار فأما إذا كانت العصبية في الحق و إقامة أمر الله فأمر مطلوب و لو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل و كذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق و قهر الكافة على الدين و مراعاة المصلح و إنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل و تصريف الآدميين طوع الأغراض و الشهوات كما قلناه، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله و لحملهم على عبادة الله و جهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً و قد قال سليمان صلوات الله عليه: ربي هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي. لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبؤة و الملك. و لما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد و العدة استنكر ذلك و قال: أكسروية يا معاوية فقال يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو و بنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب و الجهاد حاجة فسكت و لم يخطئه لما احتج عليه بمقصد من مقاصد الحق و الدين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعه الجواب في تلك الكسروية و انتحالها بل كان يحرض على خروجه عنها بالجملة و إنما أراد عمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل و الظلم و البغي و سلوك شبله و الغفلة عن الله و أجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس و باطلهم و إنما قصده بها وجه الله فسكت، و هكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك و أحواله و نسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه و سلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين و ارتضاه الناس للخلافة و هي حمل الكافة على أحكام الشريعة و لم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل و نخلة يومئذ لأهل الكفر و أعداء الدين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره و قاتل الأمم فغلبهم و أذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدنيا و الملك فغلبوهم عليه و انتزعوه منهم ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضى عنهما و الكل متبرئون من الملك منكبون عن طرقه و أكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من عضاضة الإسلام و بداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا و ترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم و لا من حيث بداوتهم و مواطنهم و ما كانوا عليه من خشونة العيش و شظفه الذي ألفوه، فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع و لا ضرع و كانوا ممنوعين من الأرياف و حبوبها لبعدها و اختصاصها بمن وليها من ربيعة و اليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها و لقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب و الخنافس و يفخرون بأكل العلهز و هو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم و يطبخونه و قريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم و مساكنهم حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه و سلم زحفوا إلى أمم فارس و الروم و طلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق فابتزوا ملكهم و استباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على مالا يأخذه الحصر و هم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد و كان علي يقول: يا صفراء و يا بيضاء غري غيري و كان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ و كانت المناخل مفقودةً عندهم بالجملة و إنما يأكلون الحنطة بنخالها و مكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم قال: المسعودي في أيام عثمان أفتى الصحابة الضياع و المال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون و مائة ألف دينار و ألف ألف درهم و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائتا ألف دينار و خلف إبلاً و خيلاً كثيرةً و بلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار و خلف ألف فرس و ألف أمة و كانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم و من ناحية السراة أكثر من ذلك و كان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم و بلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة و ثمانين ألفاً و خلف زيد بن ثابت من الفضة و الذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال و الضياع بمائة ألف دينار و بنى الزبير داره بالبصرة و كذلك بنى بمصر و الكوفة والإسكندرية و كذلك بنى طلحة داره بالكوفة و شيد دارة بالمدينة وبناها بالجص و الآجر و الساج و بنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق و رفع سمكها و أوسع فضاءها و جعل على أعلاها شرفات و بنى المقداد داره بالمدينة و جعلها مجصصة الظاهر و الباطن و خلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار و عقاراً و غير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم من كلام المسعودي. فكانت مكاسب القوم كما تراه و لم يكن ذلك منيعاً عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنها غنائم و فيوء و لم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم و أن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف و الخروج به عن القصد و إذا كان حالهم قصداً و نفقاتهم في سبيل الحق و مذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق الحق و اكتساب الدار الآخرة فلما تدرجت البداوة و الغضاضة إلى نهايتها و جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه و حصل التغلب و القهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه و الاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة و مذاهب الحق، و لما وقعت الفتنة بين علي و معاوية و هي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق و الاجتهاد و لم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد و إنما اختلف اجتهادهم في الحق و سفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه و إن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل إنما قصد الحق و أخطأ و الكل كانوا في مقاصدهم على حق ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد و استئثار الواحد به و لم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه و قومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها و استشعرته بنو أمية و من لم يكن على طريقة معاويه في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه و استماتوا دونه و لو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة و خالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمة التي كان جمعها و تأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة و قد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة و لو أراد أن يعهد إليه لفعل و لكنة كان يخشى من بنى أمية أهل الحل و العقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة. و هذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية فالملك إذا حصل و فرضنا أن الواحد انفرد به و صرفه في مذاهب الحق و وجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه و لقد انفرد سليمان و أبوه داود صلوات الله عليهما بملك بنى إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به وكانوا ما علمت من النبؤة و الحق و كذلك عيد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً و لا يرتاب أحد في ذلك و لا يظن بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا الله لمعاوية من ذلك و كذلك كان مروان بن الحكم و ابنه و أن كانوا ملوكاً لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة و البغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع و الإقتداء و ما علم السلف من أحوالهم و مقاصدهم فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عند الملك و أما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين و عدالتهم معروفة ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك و كانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه و توسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة و الصحابة جهده و لم يهمل. ثم جاء خلفهم و استعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية و مقاصدهم و نسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها و اعتماد الحق في مذاهبها فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم و أدالوا بالدعوة العباسية منهم و ولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان و صرفوا الملك في وجوه الحق و مذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح و الطالح ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك و الترف حقه و انغمسوا في الدنيا و باطلها و نبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم و انتزاع الأمر من أيدي العرب جملة و أمكن سواهم و الله لا يظلم مثقال ذرة. و من تأمل سير هؤلاء الخلفاء و الملوك و اختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه و قد حكاه المسعودي مثله في أحوال بنى أمية عن أبي جعفر المنصور و قد حصر عمومته و ذكروا بني أمية فقال: أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع و أما سليمان فكان همه بطنه و فرجه و أما عمر فكان أعور بين عميان و كان رجل القوم هشام قال و لم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه و يصونون ما و هب الله لهم منه مع تسلمهم معالي الأمور و رفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همتهم قصد الشهوات و ركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه و أمناً لكره مع اطراحهم صيانة الخلافة و استخفافهم بحق الرئاسة و ضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز و ألبسهم الذل و نفى عنهم النعمة ثم استحضر عبد الله ابن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض و قد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا فقال إني ملك و حق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثم قال لي: لم تشربون الخمر و هي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا و أتباعنا قال: فلم تطئون الزرع بدوابكم و الفساد محرم عليكم ؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا و أتباعنا بجهلهم قال: فلم تلبسون الديباج و الذهب و الحرير و هو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت: ذهب منا الملك و انتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا، فأطرق ينكث بيده في الأرض و يقول عبيدنا و أتباعنا و أعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إلي و قال: ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم و ظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل بذنوبكم و لله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم و أنا خائف أن يحل بكم العذاب و أنتم ببلدي فينالني معكم و إنما الضيافة ثلاث فتزود ما احتجت إليه و ارتحل عن أرضي فتعجب المنصور و أطرق فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك و أن الأمر كان في أوله خلافة و وازع كل أحد فيها من نفسه و هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم و أن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن و الحسين و عبد الله بن عمر و ابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى و منع من سل السيوف بين السلمين مخافة الفرقة و حفظاً للإلفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدى إلى هلاكه. و هذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية و طلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته و تتفق الكلمة و له بعد ذلك ما شاء من أمره و كان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام و غدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق و النصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي: لا و الله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس و : غششتني اليوم و لكن منعني مما أشرت به زائد الحق و هكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساد دنياهم و نحن "نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع" فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك و بقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه و الجري على منهاج الحق و لم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبيةً و سيفاً و هكذا كان الأمر لعهد معاوية و مروان و ابنه عبد الملك و الصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد و بعض ولده ثم ذهبت معاني الخلافة و لم يبق إلا اسمها و صار الأمر ملكاً بحتاً و جرت طبيعة التغلب إلى غايتها و استعملت في أغراضها من القهر التقلب في الشهوات و الملاذ و هكذا كان الأمر لولد عبد الملك و لمن جاء بعد الرشيد من بني العباس و اسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب و الخلافة و الملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض ثم ذهب رسم الخلافة و أثرها بذهاب عصبية العرب و فناء جيلهم و تلاشى أحوالهم وبقى الأمر ملكاً بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً و الملك بجميع ألقابه و مناحيه لهم و ليس للخليفة منه شيء و كذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين و مغراوة و بني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس و العبيديين بالقيروان فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا ثم التبست معانيهما و اختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة و الله مقدر الليل و النهار و هو الواحد القهار.