Published
0 145 0
الفصل الخامس و العشرون في معنى الخلافة و الإمامة لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر و مقتضاه التغلب و القهر اللذان هما من آثار الغضب و الحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه و شهواته و يختلف في ذلك باختلاف المقاصد من الخلف و السلف منهم متعسر طاعته لذلك و تجيء العصبية المفضية إلى الهرج و القتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة و ينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس و غيرهم من الأمم و إذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها و لم يتم استيلاؤها” سنة الله في الذين خلوا من قبل” فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء و أكابر الدولة و بصرائها كانت سياسة عقلية و إذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها و يشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا و في الآخرة و ذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنها كلها عبث و باطل إذ غايتها الموت و الفناء، و الله يقول” أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا “فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم” صراط الله الذي له ما في السموات و ما في الأرض” فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة و معاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع. فما كان منه بمقتضى القهر و التغلب و إهمال القوة العصبية في مرعاها فجور و عدوان و مذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية و ما كان منه بمقتضى السياسة و أحكامها فمذموم أيضاً لأنه نظر بغير نور الله” و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور” لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم و أعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلى الله عليه و سلم:” إنما هي أعمالكم ترد عليكم”. و أحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط يعلمون ظاهراً من حياة الدنيا و مقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم و آخرتهم و كان هذا الحكم لأهل الشريعة و هم الأنبياء و من قام فيه مقامهم و هم الخلفاء فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة و أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية و دفع المضار و الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به فأفهم ذلك و اعتبره فيما نورده عليك من بعد و الله الحكيم العليم.