Published
0 149 0
الفصل الثامن و الخمسون: في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب، إنما سره و روحه في إفادة المعنى. و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به. و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين، بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية. و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير، و تعريف و تنكير، و إضمار و إظهار. و تقييد و إطلاق و غيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات. ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه، و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. و الظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة، و سموها بالبيان. و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها. و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة، و بهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته. ثم اعلم أنهم إذا قالوا: الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة و خطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، و يدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين، بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، و المطابقة بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني. فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة. و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل: "والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى"، و مثل: "فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى"، إلى آخر التقسيم في الآية. و كذا:" فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا" إلى آخر الآية. و كذا:" هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا". و أمثاله كثير. و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. و كذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد. و يقال إنه وقع في شعر زهير. و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا، و أتوا منه بالعجائب. و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعه. و يأتون منها بالعجب. و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة، و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس. و جاء على آثارهم حبيب و البحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع. و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة. مثل قول قيس بن : ذريح و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا : و قول كثير و إني و تهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا و تخليت لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا. و أما المصنوع فكثير من لدن بشار، ثم حبيب و طبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، و نسجوا على منوالهم. و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، و اختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. و كثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، و أنها هي تعطى التحسين و الرونق. و أما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. و لذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. و هو رأي ابن رشيق قي كتاب العمدة له، و أدباء الأندلس. و ذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا منها أن تقع من غير تكلف و لا اكتراث في ما يقصد منها. و أما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأن تكلفها و معاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، و تذهب بالبلاغة رأسا. و لا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، و هذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. و أصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، و يعدون ذلك من القصور عن سواه. و سمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، و كان من أهل البصر في اللسان و القريحة. في ذوقه يقول، إن من أشهى ما تقترحه على نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، و قد عوقب بأشد العقوبة، و نودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، و يتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها و أن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر و رونقه. و الإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق و غيره. و كان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من محسنات الكلام و مزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد و الإثنين منها، و يقبح بتعدادها. و على نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية و الإسلام. كان أولا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله و تراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع و لا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة و التقفيه و أتى بذلك بالعجب. و عاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. و إنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة و البعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين و نسي عهد الترسيل و تشابهت السلطانيات و الإخوانيات و العربيات بالسوقيات. و اختلط المرعى بالهمل. و هذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة و التكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الإكتراث فيه بأصل البلاغة، و الحاكم في ذلك الذوق. و الله خلقكم و علمكم ما لم تكونوا تعلمون.