Published
0 130 0
الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها. و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً. و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل. و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي , و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته. و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة. و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه. و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها. و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب. و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان. و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها. و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب.