Published
0 104 0
الفصل السابع في علم الفقه و ما يتبعه من الفرائض الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب و الحذر و الندب و الكراهة و الإباحة و هي متلقاة من الكتاب و السنة و ما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه. و كان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيما بينهم. و لا بد من وقوعه ضرورة. فإن الأدلة غالبها من النصوص و هي بلغة العرب و في اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها و خصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف. و أيضاً فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت و تتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح و هو مختلف أيضاً. فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها و أيضاً فالوقائع المتجددة لا توفى بها النصوص. و ما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحكم على المنصوص لمشابهة بينهما و هذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقائع. و من هنا وقع الخلاف بين السلف و الأئمة من بعدهم. ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا و لا كان الدين يؤخذ عن جميعهم. و إنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه و منسوخه و متشابهه و محكمه و سائر دلالته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه و سلم أو ممن سمعه منهم و من عليتهم. و كانوا يسمون لذلك القراء أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية. فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. و بقي الأمر كذلك صدر الملة. ثم عظمت أمصار الإسلام و ذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب و تمكن الاستنباط و كمل الفقه و أصبح صناعة و علماً فبدلوا باسم الفقهاء و العلماء من القراء. و انقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي و القياس و هم أهل العراق و طريقة أهل الحديث و هم أهل الحجاز. و كان الحديث قليلاً في أهل العراق لما قدمناه فاستكثروا من القياس و مهروا فيه فلذلك قيل أهل الرأي. و مقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه و في أصحابه أبو حنيفة و إمام أهل الحجاز مالك بن أنس و الشافعي من بعده. ثم أنكر القياس طائفة من العلماء و أبطلوا العمل به و هم الظاهرية. و جعلوا المدارك كلها منحصرة في النصوص و الإجماع و ردوا القياس الجلي و العلة المنصوصة إلى النص، لأن النص على العلة نص على الحكيم في جميع محالها. و كان إمام هذا المذهب داود بن علي و ابنه و أصحابهما. و كانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة. و شذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها و فقه انفردوا به و بنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، و على قولهم بعصمة الأئمة و رفع الخلاف عن أقوالهم و هي كلها أصول واهية و شذ بمثل ذلك الخوارج و لم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعها جانب الإنكار و القدح. فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم و لا نروي كتبهم و لا أثر بشيء منها إلا في مواطنهم. فكتب الشيعة في بلادهم و حيث كانت دولتهم قائمة في المغرب و المشرق و اليمن و الخوارج كذلك. و لكل منهم كتب و تآليف و آراء في الفقه غريبة. ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته و إنكار الجمهور على منتحله و لم يبق إلا الكتب المجلدة و ربما يعكف كثير من الطالبين ممن تكلف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها و مذهيهم فلا يخلو بطائل و يصير إلى مخالفة الجمهور و إنكارهم عليه و ربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بنقله العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين. و قد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علو رتبته في حفظ الحديث و صار إلى مذهب أهل الظاهر و مهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم. و خالف إمامهم داود و تعرض للكثير من الأئمة المسلمين فنقم الناس ذلك عليه و أوسعوا مذهبه استهجاناً و إنكاراً، و تلقوا كتبه بالإغفال و الترك حتى إنها ليحصر بيعها بالأسواق و ربما تمزق في بعض الأحيان. و لم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق و أهل الحديث من الحجاز. فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت و مقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلده و خصوصاً مالك و الشافعي. و أما أهل الحجاز فكال إمامهم مالك ابن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى و اختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره و هو عمل أهل المدينة لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم و اقتدائهم. و هكذا إلى الجبل المباشرين لفعل النبي صلى الله عليه و سلم الآخذين ذلك عنه و صار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. و ظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمة. و اعلم أن الإجماع إنما هو الإتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. و مالك رحمه الله تعالى لم يعتير عمل أهل المدينة من هذا المعنى و إنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله و سلامه عليه. و ضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة ذكرت في باب الإجماع و الأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها و بين الإجماع. إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر و اجتهاد في الأدلة و اتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. و لو ذكرت المسألة في باب فعل النبي صلى الله عليه و سلم و تقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي و شرع من قبلنا و الاستصحاب لكان أليق بها ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهم االله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك و له أصحاب الإمام أبي حنيفة و أخذ عنهم و مزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق و اختص بمذهب، و خالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. و جاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. و كان من علية المحدثين و قرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر. و وقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة و درس المقلدون لمن سواهم. و سد الناس باب الخلاف و طرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم. و لما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد و لما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله و من لا يوثق برأيه و لا بدينه فصرحوا بالعجز و الإعواز و ردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين. و حظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب و لم يبق إلا نقل مذاهبهم. و عمل كل فقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول و اتصال سندها بالرواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا. و مدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده و قد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة. فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد و أصالته في معاضدة الرواية و للأخبار بعضها ببعض. و أكثرهم بالشام و العراق من بغداد و نواحيها و هم أكثر الناس حفظاً للسنة و رواية الحديث و ميلاً بالإستنباط إليه عن القياس ما أمكن. و كان لهم ببغداد صولة و كثرة حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها. و عظمت الفتنة من أجل ذلك ثم انقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها. و لم يراجع و صارت كثرتهم بالشام. و أما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق و مسلمة الهند و الصين و ما وراء النهر و بلاد العجم كلها.. و لما كان مذهبه أخص بالعراق و دار السلام و كان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس فكثرت تآليفه و مناظراتهم مع الشافعية و حسنت مباحثهم في الخلافيات. و جاءوا منها بعلم مستظرف و أنظار غريبة و هبى بين أيدي الناس. و بالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي بن العربي و أبو الوليد الباجي في رحلتهما. و أما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها و قد كان انتشر مذهبه بالعراق و خراسان و ما وراء النهر و قاسموا الحنفية في الفتوى و التدريس في جميع الأمصار. و عظمت مجالس المناظرات بينهم و شحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق و أقطاره. و كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم. و كان من تلميذه بها: البويطي و المزني و غيرهم، و كان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم و أشهب و ابن القاسم و ابن المواز و غيرهم ثم الحارس بن مسكين و بنوه ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان و أو لاده. ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة و تداول بها فقه أهل البيت و تلاشى من سواهم و ارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد. آخر المائة الرابعة على ما أعلم، من الحاجة و التقليب في المعاش. فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه، و إظهار فضله نعياً على بني العباس في إطراح مثل هذا الإمام، و الإغتباط به. فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب فذهب منها فقه أهل البيت و عاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم و رجع إليهم فقه الشافعي و أصحابه من أهل العراق و الشام فعاد إلى أحسن ما كان و نفقت سوقه و اشتهر منهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام و عز الدين بن عبد السلام أيضاً. ثم ابن الرقعة بمصر و تقي الدين بن دقيق العيد ثم تقي الدين السبكي بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد و هو سراج الدين البلقيني فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر. و أما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب و الأندلس. و إن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز و هو منتهى سفرهم. و المدينة يومئذ دار العلم و منها خرج إلى العراق و لم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة. و شيخهم يومئذ و إمامهم مالك و شيوخه من قبله و تلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب و الأندلس و قلدوه دون غير ممن لم تصل إليهم طريقته. و أيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب و الأندلس و لم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، و لهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم، و لم يأخذه تنقيح الحضارة و تهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. و لما صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه و لم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد و القياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الالحاق و تفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذاهب إمامهم. و صار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة و اتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. و هذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. و أهل المغرب جميعاً مقلدون لمالك رحمه الله. و قد كان تلاميذه افترقوا بمصر و العراق. فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل و طبقته مثل ابن خويز منداد و ابن اللبان و القاضي و أبي بكر الأبهري و القاضي أبي حسين بن القصار و القاضي عبد الوهاب و من بعدهم. و كان بمصر ابن القاسم و أشهب و ابن عبد الحكم و الحارث بن مسكين و طبقتهم و رحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، و لقي مالكاً. و روى عنه كتاب الموطأ، و كان من جملة أصحابه. و رحل بعده عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم و طبقته و بث مذهب مالك في الأندلس و دون فيه كتاب الواضحة. ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية. و رحل من أفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً. ثم انتقل إلى مذهب مالك. و كتب على ابن القاسم في سائر أبواب الفقه و جاء إلى القيروان بكتابه و سمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق و لقي ابن القاسم و أخذ عنه و عارضه بمسائل الأسدية فرجع عن كثير منها. و كتب سحنون مسائلها و دونها و أثبت ما رجع عنه منها و كتب لأسد و أن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك الناس كتابه و اتبعوا مدونة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة و المختلطة. و عكف أهل القيروان على هذه المدونة و أهل الأندلس على الواضحة و العتبية. ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة و المختلطة في كتابه المسمى بالمختصر و لخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب و اعتمده المشيخة من أهل أفريقية و أخذوا به و تركوا ما سواه. و كذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية و هجروا الواضحة و ما سواها. و لم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح و الإيضاح و الجمع فكتب أهل أفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس و اللخمي و ابن محرز التونسي و ابن بشير و أمثالهم. و كتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد و أمثاله. و جمع ابن أ بي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل و الخلاف و الأقوال في كتاب النوادر فاشتمل على جميع أقوال المذاهب و فرع الأمهات كلها في هذا الكتاب و نقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة و زخرت بحار المذهب المالكي في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة و القيروان. ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب و تعديد أقوالهم في كل مسئلة فجاء كالبرنامج للمذهب. و كانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين و ابن المبشر و ابن اللهيث و ابن الرشيق و ابن شاس. و كانت بالإسكندرية في بني عوف و بني سند و ابن عطاء الله. و لم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين و ذهاب فقه أهل البيت و ظهور فقهاء السنة من الشافعية و المالكية و لما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة عكف عليه الكثير من طلبة المغرب و خصوصاً أهل بجاية لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب. فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر و نسخ مختصره ذلك فجاء به و انتشر بقطر بجاية في تلميذه، و منهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية و طلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته و يتدارسونه لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. و قد شرحه جماعة من شيوخهم: كابن عبد السلام و ابن رشد و أبي هارون و كلهم من مشيخة أهل تونس و سابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام و هم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم. و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.