Published
0 137 0
الفصل السادس في علوم الحديث و أما علوم الحديث فهي كثيرة و متنوعة لأن منها ما ينظر في ناسخه و منسوخه و ذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ و وقوعه لطفاً من الله بعباده و تخفيفاً عنهم باعتبار مصالحهم التي تكفل الله لهم بها. قال تعالى” ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها”و معرفة الناسخ و المنسوخ و إن كان عاقاً للقرآن و الحديث إلا إن الذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره و بقي ما كان خاصاً بالحديث راجعاً إلى علومه. فإذا تعارض الخبران بالنفي و الإثبات و تعذر الجمع بينهما ببعض التأويل و علم تقدم أحدهما تعين إن المتأخر ناسخ. و معرفة الناسخ و المنسوخ من أهم علوم الحديث و أصعبها. قال الزهري: أعيا الفقهاء و أعجزهم إن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من منسوخه. و كان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة. و من علوم الأحاديث النظر في الأسانيد و معرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن و هو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة و الضبط. و إنما يثبت ذلك بالعقل عن أعلام الدين لتعديلهم و براءتهم من الجرح و الغفلة و يكون لنا ذلك دليلاً على القبول و الترك. و كذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة و التابعين و تفاوتهم في ذلك و تميزهم فيه واحداً واحداً. و كذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها و انقطاعها بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه و بسلامتها من العلل الموهنة لها و تنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى و رد الأسفل. و يختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. و لهم في ذلك، ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة. مثل الصحيح و الحسن و الضعيف و المرسل و المنقطع و المعضل و الشاذ و الغريب، و غير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. و بوبوا على كل واحد منها و نقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة اللسان أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواية بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة و تفاوت رتبها و ما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول و الرد. ثم اتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف و ما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث و غالبه و كانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة و التابعين معروفة عند أهل بلده فمنهم بالحجاز و منهم بالبصرة و الكوفة من العراق و منهم بالشام و مصر و الجميع معروفون مشهورون في أعصارهم و كانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم و امتن في الصحة لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة و الضبط و تجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك و سند الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه ثم أصحابه مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه، و ابن وهب و ابن بكير و القصنبي و محمد بن الحسن و من بعدهم الإمام أحمد بن حنبل و في آخرين من أمثا لهم. و كان علم الشريعة في مبدإ هذا الأمر نقلاً صرفاً شمر لها السلف و تحروا الصحيح حتى أكملوها. و كتب مالك رحمه الله كتاب الموطأ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه و رتبه على أبواب الفقه. ثم عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث و أسانيدها المختلفة. و ربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين و قد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. و جاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين و العراقيين و الشاميين. و اعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه و كرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث و مائتين. منها ثلاثة آلاف متكررة و فرق الطرق و الأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى فألف مسنده الصحيح. حذا فيه حذو البخاري. في نقل المجمع عليه و حذف المتكرر منها و جمع الطرق و الأسانيد و بوبه على أبواب الفقه و تراجمه. و مع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. و قد استدرك الناس عليهما في ذلك. ثم كتب أبو داود السجستاني و أبو عيسى الترمذي و أبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح و قصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد و هو الصحيح كما هو معرف و إما من الذي دونه من الحسن و غيره ليكون ذلك إماماً للسنة و العمل. و هذه هي المسانيد المشهورة في الملة و هي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها و إن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب. و معرفة هذه الشروط و الاصطلاحات كلها هي علم الحديث و ربما يفرد عنها الناسخ و المنسوخ فيجعل فناً برأسه و كذا الغريب. و للناس فيه تآليف مشهورة ثم المؤتلف و المختلف. و قد ألف الناس في علوم الحديث و أكثروا. و من فحول علمائه و أئمتهم أبو عبد الله الحاكم و تآليفه فيه مشهورة و هو الذي هذبه و أظهر محاسنه. و أشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوائل المائة السابعة و تلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. و الفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة. و قد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث و استدراكها على المتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم و تلاحق عصورهم و كفايتهم و اجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئاً من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر هذا بعيد عنهم و إنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة و ضبطها بالزواية عن مصنفيها و النظر في أسانيدها إلى مؤلفها و عرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط و الأحكام لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. و لم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمس إلا في القليل. فأما البخاري و هو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه و استغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة و رجالها من أهل الحجاز و الشام و العراق و معرفة أحوالهم و اختلاف الناس فيهم. و لذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة و يورد فيها الحديث بسند أو طريق ثم يترجم أخرى و يورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب. و كذلك في ترجمة و ترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه و اختلافها و من شرحه و لم يستوف هذا فيه فلم يوف حق الشرح كابن بطال و ابن المهلب و ابن التين و نحوهم. و لقد سمعت كثيراً من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة يعنون أن أحداً من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار. و أما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به و أكبوا عليه و أجمعوا على تفصيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه و أكثر ما وقع له في التراجم. و أملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحاً و سماه المعلم بفوائد مسلم اشتمل على عيون من علم الحديث و فنون من الفقه ثم أكمله القاضي عياض من بعده و تممه و سماه إكمال المعلم و تلاهما محيي الدين النووي بشرع استوفى ما في الكتابين و زاد عليهما فجاء شرحاً وافياً. و أما كتب السنن الأخرى و فيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعلم الحديث فكتب الناس عليها و استوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث و موضوعاتها و الأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السنة. و اعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح و حسن و ضعيف و معلول و غيرها تنزلها أئمة الحديث و جهابذته و عرفوها. و لم يغب طريق في تصحيح ما يصح من قبل. و لقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها و أسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده و طريقه يفطنون إلى أنه قلب عن وضعه و لقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد و قصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه و لكن حدثني فلان. ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح و رد كل متن إلى سنده و أقروا له بالإمامة. و اعلم أيضاً أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة و الإقلال فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى سنة عشر حديثاً أو نحوها و مالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ و غايتها ثلثمائة حديثاً أو نحوها. و أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده خمسون ألف حديث و لكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. و قد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت روايته. و لا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب و السنة. و من كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه و روايته و الجد و التشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة و يتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. و إنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترضه فيها و العلل التي تعرض في طرقها سيما و الجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث و طرق الأسانيد و يكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق. هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة و مأوى الصحابة و من انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر. و الإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية و التحمل و ضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. و قلت من أجلها رواية فقل حديثه. لأنه ترك رواية الحديث متعمداً فحاشاه من ذلك. و يدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم و التعويل عليه و اعتباره رداً و قبولاً. و أما غيره من المحدثين و هم الجمهور فتوسعوا في الشروط و كثر حديثهم و الكل عن اجتهاد و قد توسع أصحابه من بعده في الشروط و كثرت روايتهم. و روى الطحطاوي فأكثر و كتب مسنده و هو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري و مسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه. و شروط الطحطاوي غير متفق عليها كالرواية عن المستور الحال و غيره فلهذا قدم الصحيحان بل و كتب السنن المعروفة عليه لتأخر شروطه عن شروطهم. و من أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالفن الجميل بهم و التماس المخارج الصحيحة لهم. و الله سبحانه و تعالى أعلم بما في حقائق الأمور.