Published
0 292 0
الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران و تعظم الحضارة و السبب في ذلك أن تعليم العلم كما قدمناه من جملة الصنائع. و قد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار. و على نسبة عمرانها في الكثرة و القلة و الحضارة و الترف تكون نسبة الصنائع في الجودة و الكثرة لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان و هي العلوم و الصنائع. و من تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى و الأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو. كما قدمناه و لا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها. و اعتبر ما قررناه بحال بغداد و قرطبة و القيروان و البصرة و الكوفة لما كثر عمرانها صدر الإسلام و استوت فيها الحضارة. كيف زخرت فيها بحار العلم و تفننوا في اصطلاحات التعليم و أصناف العلوم و استنباط المسائل و الفنون حتى أربوا على المتقدمين و فاتوا المتأخرين. و لما تناقص عمرانها و ابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، و فقد العلم بها و التعليم. و انتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. و نحن لهذا العهد نرى أن العلم و التعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر و حضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع و تفننت و من جملتها تعليم العلم. و أكد ذلك فيها و حفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب و هلم جرا. و ذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء و لما يخشى من معاطب الملك و نكباته. فاستكثروا من بناء المدارس و الزوايا و الربط و وقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركاً لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالباً من الجنوح إلى الخير و التماس الأجور في المقاصد و الأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك و عظمت الغلات و الفوائد و كثر طالب العلم و معلمه بكثرة جرايتهم منها و ارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق و المغرب و نفقت بها أسواق العلوم و زخرت بحارها. و الله يخلق ما يشاء.