Published
0 171 0
الفصل الثاني و العشرون في لغات أهل الأمصار إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها و لذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق و المغرب لهذا العهد عربية و أن كان اللسان العربي المصري قد فسدت ملكته و تغير إعرابه والسبب في ذلك ما و قع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم و الدين و الملة صورة للوجود و للملك. و كلها مواد له و الصورة مقدمة على المادة و الدين إنما يستفاد من الشريعة و هي بلسان العرب لما أن النبي صلى الله عليه و سلم عربي فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها. و اعتبر ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بطالة الأعاجم و قال إنها خب. أي مكر و خديعة. فلما هجر الدين اللغات الأعجمية و كان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً هجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تبع للسلطان و على دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام و طاعة العرب. و هجر الأمم لغاتهم و ألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. و صار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم و صارت الألسنة العجمية دخيلة فيها و غريبة. ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه و تغير أواخره و إن كان بقي في الدلالات على أصله وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام. و أيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها، الهالكين في ترفها بما كثروا العجم الذين كانوا بها و ورثوا أرضهم و ديارهم. و اللغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء و إن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً. و سميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر و الأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنها كانت أعرق في العروبية و لما تملك العجم من الديلم و السلجوقية بعدهم بالمشرق، و زناتة و البربر بالمغرب، و صار لهم الملك و الاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية فسد اللسان العربي لذلك و كاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب و السنة اللذين بهما حفظ الدين و سار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة العربية المصرية من الشر و الكلام إلا قليلاً بالأمصار فلما ملك التتر والمغول بالمشرق و لم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح و فسدت اللغة العربية على الإطلاق و لم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق و خراسان وبلاد فارس و أرض الهند و السند و ما وراء النهر و بلاد الشمال و بلاد الروم و ذهبت أسابيب اللغة العربية من الشعر و الكلام إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من كلام العرب و حفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك. و ربما بقيت اللغة العربية المصرية بمصر والشام و الأندلس و بالمغرب لبقاء الدين طلباً لها فانحفظت ببعض الشيء و أما في ممالك العراق و ما وراءه فلم يبق له أثر و لا عين حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي و كذا تدريسه في المجالس و الله أعلم بالصواب. و الله مقدر الليل و النهار. صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين و الحمد لله رب العالمين.