Published
0 85 0
الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار و المدن في كثرة الرزق لأهلها و نفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة و القلة و السبب في ذلك أنه قد عرف و ثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه و إنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك و الحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه. و إذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد و نجار للآلات و قائم على البقر و إثارة الأرض و حصاد السنبل و سائر مؤن الفلح و توزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا و حصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين و ضروراتهم. فأهل مدين أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم و حاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال و بقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات فتصرف في حالات الترف و عوائده و ما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار و يستجلبونه منهم بأعواضه و قيمه فيكون لهم بذلك حظاً من الغنى و قد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب و الرزق أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة و دعتهم أحوال الرفه و الغنى إلى الترف و حاجاته من التأنق في المساكن و الملابس و استجادة الآنية و الماعون و اتخاذ الخدم و المراكب و هذه كلها أعمال تستدعى بقيمها و يختار المهرة في صناعتها و القيام عليها فتنفق أسواق الأعمال و الصنائع و يكثر دخل المصر و خرجه و يحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. و متى زاد العمران زادت الأعمال ثانية ثم زاد الترف تابعاً للكسب و زادت عوائده و حاجاته. و استنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها و تضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية و نفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول. و كذا في الزيادة الثانية و الثالثة لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف و الغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب و رفه بعوائد من الترف لا توجد في الآخر فما كان عمرانه من الأمصار أكثر و أوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف. القاضي مع القاضي و التاجر مع التاجر و الصانع مع الصانع و السوقي مع السوقي و الأمير مع الأمير و الشرطي مع الشرطي. و اعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره مثل بجاية و تلمسان و سبتة تجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة، ثم على الخصوصيات فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان و هكذا كل صنف مع صنف أهله. و كذا أيضاً حال تلمسان مع وهران أو الجزائر و حال وهران و الجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط و يقصرون عنها. و ما ذلك إلا لتفاوت الأعمال فيها فكأنها كلها أسواق للأعمال. و الخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه و كذا القاضي بتلمسان و حيث الدخل و الخرج أكثر تكون الأحوال أعظم و هما بفاس أكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف فالأحوال أضخم. ثم هكذا حال وهران و قسطنطينية و الجزائر و بسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها و لا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى و المدر. فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر و الخصاصة لما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم و لا يفضل ما يتأثلونه كسباً فلا تنمو مكاسبهم. و هم لذلك مساكين محاويج إلا في الأقل النادر. و اعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء و السؤال فإن السائل بفاس أحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران. و لقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم و رأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف و اقتراح المآكل مثل سؤال اللحم و السمن و علاج الطبخ و الملابس و الماعون كالغربال و الآنية. و لو سأل سائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر و عنف و زجر. و يبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة و مصر من الترف و الغنى في عوائدهم ما يقضى منه العجب حتى أن كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون من الثقلة إلى مصر لذلك و لما يبلغهم من شأن الرفه بمصر أعظم من غيرها. و بعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم أو أموال مختزنة لديهم. و أنهم أكثر صدقة و إيثاراً من جميع أهل الأمصار و ليس كذلك و إنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر و القاهرة أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك فعظمت لذلك أحوالهم. و أما حال الدخل و الخرج فمتكافئ في جميع الأمصار أحوال الساكن و وسع المصر. كل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره و اعتبره بكثرة العمران و ما يكون عنه من كثرة المكاسبة التي يسهل بسببها البذل و الإيثار على مبتغيه و مثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة و كيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها فإن بيوت أهل النعم و الثروة و الموائد الخصبة منها تكثر بساحتها و أقنيتها بنثر الحبوب و سواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النمل و الخشاش و يلحق فوقها عصائب الطيور حتى تروح بطاناً و تمتلئ شبعاً و رياً و بيوت أهل الخصاصة و الفقراء الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب و لا يحلق بجوها طائر و لا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة و لا : هرة كما قال الشاعر تسقط الطير حيث تلتقط الحب ///// و تغشى منازل الكرماء فتأمل سر الله تعالى في ذلك و اعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات و فتات الموائد بفضلات الرزق و الترف و سهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم و اعلم أن اتساع الأحوال و كثرة النعم في العمران تابع لكثرته و الله سبحانه و تعالى أعلم و هو غني عن العالمين.