كعادته ينهض باكرا مليئا بالنشاط ، فيجهز نفسه للذهاب إلى مدرسته ، حيث إن مهدي لم يكن كبقية أبناء جيله الذين لا ينهضون إلا بعد محاولات عديدة من الأم المسكينة ، فهذا الطفل كان مختلفا تماما ، و محبا للحياة بطريقة تحعل المرء يعيد التفكير في ما إذا كان هذا تلميذ في الصف الثاني من التعليم المتوسط ، كما أنه كان يعشق دراسته و يحبها حبا جما ، حيث إنه و بالرغم من صغر سنه ، فقد كان يتمتع بوعي كبير و كان يدرك جيدا أن مفتاح النجاح و التألق في الحياة هو الدراسة و كانت بداخله قصور مشيدة من الأمل...أجل الأمل الذي يكاد ينعدم من الوجود في صدور البشر بسبب انكسارات الزمن الذي أضحى صديقا لدودا لهم ، فهو يوهمهم بأنه رفيق حميم يحمل معهم ما سيفرحهم و يدخل البهجة إلى مغارات القهر و الدمار الموجودة بأعماقهم ، و في الأخير يفاجئهم بألاعيبه التي تحاول إطفاء كل نور متسلل إلى تلك المغارات القاتمة ، فكيف لطفل مثله أن يحمل بداخله كل تلك الآمال ، أم أن الأيام لم تقرر بعد جعل الزمن صديقا لدودا له!
و هو في طريقه إلى المدرسة يمر على بيت عمه الذي يبعد عنه بحوالي مائتي متر ، لينادي ابن عمه و صديق عمره *عقبة* حيث كانا يدرسان في قسم واحد و يعيشان في حي واحد ، أو بالأحرى كان كل واحد منهما متربعا على عرش قلب الآخر ، كان صوتا جميلا جدا ، صوت ملائكي ينادي كل صباح : عقبة ، هيا أسرع أيها النعسان ، فإلى متى أظل أنتظرك ، حقا مللت من كسلك يا ابن العم ، لتخرج *مروة* من البيت كعادتها و هي ذاهبة إلى مدرستها الابتدائية ، فتطمئنه قائلة : آه يا ابن العم صبر جميل ، فالكسول على وشك الخروج ، فيرتاح قلبه قليلا ، لكن و بمجرد أن يخرج عقبة ينقض عليه بالضرب اللطيف ، ضرب نابع من حب عميق متواجد في القلب ، و أي ضرب هذا الذي ينتهي بالأحضان الأخوية البريئة، و الله لا يوجد أصدق و أروع و أجمل من حب كلن موطنه قلب طفل لم لم تكسره الأيام بعد و لم تلعب به الأقدار لعبتها القذرة و لم يعبث به الزمن القهار ، فقلب الأطفال وحده من يستحق كلمة قلب أما تلك المتواجدة في أقفاص صدرية لأناس بالغين ، ما هي في أغلبها إلا حجارة أو بقايا قلوب كانت في الماضي تنعم بالحياة ، فأكثر قلوبنا نحن الكبار مثلها مثل الآثار الرومانية ببلادنا ، آثار إن دلت على شيء فإنما تدل على أنها كانت هناك حياة قبل قرون مضت لتتحول تلك الحياة إلى لا شيء و يبقى لها آثار تدلنا على مرورها بتلك المناطق ، كذلك هي القلوب التي قتلها غدر الإنسان و الزمان فبعضها تحولت إلى حجارة و بعضها انهارت و أضحت أشلاء متناثرة في صدورنا
يصل الصديقان إلى المتوسطة يتفاجآ بتواجد *أسامة* فيقول له مهدي : صباح الخير يا أحلى صديق ، كيف الحال بل كيف وصلت باكرا على غير عادتك ؟؟ فيجيبه قائلا : لقد أوصلني سائق أبي و لهذا أنا هنا بهذا التوقيت، ه يا ربي كم أكره النهوض باكرا حتى أني لم أمر على بيت *شكيب* لأحضره معي..و يواصل بعد التثاؤب : حتما سيغضب مني ، و بينما هو يتحدث فإذ به يصل و الابتسامة على وجهه فنظر إليه أسامة نظرة الخائف من العتاب ، لكن شكيب و بمجرد أن سلم على أصدقائه قال لهم : لا أصدق أن ابن خالتي أسامة وصل باكرا اليوم ، لا بل و يقف أمام باب المتوسطة منتظرا الدخول ، يا لها من نكتة طريفة !!! و يواصل متهكما : قل لي بصراحة كيف أنت هنا هذا الوقت !! فيخبره مهدي عن سبب وصوله باكرا و يرد شكيب مستغربا : لا ما هذه الصدفة الغريبة ، لا تقل لي أن والدينا اتفقا على إرسالنا مع سائقيهما !! ترى هل لاحظا أننا نتأخر عن المدرسة أم ماذا؟
رن جرس المدرسة و دخلوا إلى قسمهم و هم يتبادلون أطراف الحديث ، بل أغاني الراب التي كانوا يحفظونها عن ظهر قلب، فقد كانوا مولعين بهذا الفن الذي يعد من أقوى الفنون و أكثرها انتشارا و شهرة في العالم *فن الراب* الذي يعشقه الملايين ، فيا ترى ما سر حب الناس له ؟؟ أظن أني أملك الجواب فالناس تعشقه لكونه يتحدث بطريقة بسيط و مباشرة و بدون تكلف عن أوجاع إنسانية جعلت من قلوب البشر موطنا لها ، فمن يستمع لأغانيه يشعر و كأنها تتحدث عن كل ما يجول في عقل الإنسان و قلبه من هموم و أوجاع و أفكار ، فن بسيط لكنه معقد فهو سهل و صعب في نفس الوقت ، حقا له سحر خاص و لهذا استطاع أن يكسب قلوب الصغار قبل الكبار ، على غرار هؤلاء الأصدقاء فمهدي مثلا كان كلما ينهض صباحا يردد أغنية من أغاني الراب التي كان يحفظها أفضل من اسمه ، فقد كان يرتدي ملابسه و هو يغني ، يتناول فطوره الصباحي و هو يغني ، حتى كاد يتحول كلامه مع البشر إلى أغاني الراب الذي كان يسري في دمه....فالقاسم المشترك بين هؤلاء الأبرياء الأربعة هو انتماءهم لحب هذا الفن الذي يعد لغزا بحد ذاته ، فقد كانوا يرددون على مسامع بعضهم البعض كل كل ما هو متوفر على ساحة هذا الفن من أغان متونعة و متعددة حيث إنه كان هناك انسجام كبير بينهم ، اسنجام روح و عقل
و الأجمل فيهم هو أنهم كانوا يطلقون على أنفسهم أسماء غريبة ، تلك الأسماء التي ينفرد بها فن الراب و التي يبقى معناها مبهما أو بالأحرى سبب انتقائها هو الذي يعد مبهما بالنسبة لنا ، فأولئك الفنانون يعون جيدا لماذا تلك الأسماء ، ترى ما سر اختيار كل فنان لاسم أغرب من الآخر و هل خلفية هذا الاختيار هذا تعود إلى أسباب شخصية مثلا ؟؟ هل لتلك الأسماء علاقة بقصة عاشها فنان ما ؟ و إذا كان الجواب كذلك ، فهل هذه القصص سعيدة أم حزينة ؟؟ حقا يبقى السؤال مطروحا و الجواب قابع في صدور الفنانين ، فمهما شرحوا للنا فمن المؤكد أن هناك جانبا يخفونه عنا ، فما هو المخفي يا ترى؟
و مع مرور أيام هذا الزمن المبهم هو الآخر و بالذات في فترة نهاية السنة الدراسية ، كان مهدي يتفرج على حصة تلفزيونية كان ضيفها أحد كبار فناني الراب ، يدعى *رشيد* و كان يروي قصة نجاحه و كيف أصبح أحد أكبر فناني الراب ، لكن ما لفت انتباه الطفل هو حين قال ذلك الفنان أنه نشأ في عائلة فقيرة ، و إيمانه بموهبته هو الذي جعله اليوم نجما ساطعا في ميدان الراب ، و هذا ما جعل مهدي يفكر في أمر كان يراه في الماضي القريب شبه مستحيل ، و أخذ يفكر و يفكر في الموضوع إلى أن اقتنع به كليا ، بعدها ركض مسرعا إلى توأم روحه و قال له : عقبة فنانو الراب الذين نعشقهم ألم يكونوا أطفالا مثلنا ؟ فرد قائلا : طبعا يا ابن العم ، و واصل حديثه : إذن فهم مثلنا و لم يأتوا من كوكب آخر ، أي أنه بإمكاننا نحن أيضا تأسيس فرقة راب ، لقد كنت أستمع الآن إلى رشيد و هو يروي قصة نجاحه و هذا ما جعلني أفكر في الموضوع ..ملاحظتك جميلة و فكرتك أجمال ، يا الله هل تظن يا أخي أنه بإمكانا أن نصبح نجوما يوما ما ، فرد عليه مؤكدا : طبعا و ما المانع ، علينا فقط أن نتخذ قرارا حاسما ، أما الموهبة و الإرادة فهما ساريتان في دمنا ، بعدها صرخ عقبة من الفرح قائلا : أجل و لما أن صديقينا أسامة و شكيب يعشقان هذا الفن مثلنا و الحمد لله حالتهما المادية جيدة ، إذن... فقاطعه مهدي : إذن نستطيع تحقيق الحلم ، و أخذا يقفزان من الفرح ، و فجأة زرعت بذرة الأمل في صدريهما ن فيا ترى هل سيسمح القدر بنمو تلك البذرة في قلبيهما أم سيدوس عليها كما داس على ملايين البذور من قبلهما ؟؟ّ!!
و في البوم الموالي كان آخر امتحان لهما في المدرسة أي أنه أول يوم عطلة طويلة ، و بعد إلقاء التحية على صديقيهما ، فإن أول ما حدثاهما عنه هو المشروع أو بالأحرى الحلم اللذان يريدان تحقيقه : فرد أسامة فرحا : حقا هل هذا ما سمعته من رشيد ، و هل تعتقد أن تحقيق الحلم هينا لهذه الدرجة ؟؟ فقاطع شكيب : و لم لا يا بن خالتي ... آه يا صديقي عقبة هذا أجمل خبر سمعته في حياتي ، و الله كنت خائفا من اجتياز امتحان مادة اليوم أما الآن ...و هتف الجميع : أما الآن فلا خوف لا من الامتحان و لا من غيره ، حي على الفلاح حي على النجاح
فعلا ، حيث كان آخر امتحان لهم سهلا للغاية ، أو هم من جعلوه سهلا بإرادتهم القوية التي كبرت فجأة فيهم ، فالإرادة وحدها القادرة على تحطيم كل قلاع الخوف و الهواجس التي تشيدها الأيام في نفس المرء ، محاولة بذلك تحويله إلى مخلوق ضعيف ، لكن من يؤمن بقدراته التي منحها إياه الخالق و من لديه عقيدة من فولاذ بأن الإنسان قادر على تحقيق كل الأهداف ، فإنه لا مكان في نفسه لتلك القلاع التي حطمت و تحطم الملايين من البشر ، و من هنا باشر الأطفال عملهم في تحقيق حلمهم و أول خطوة قاموا بها هي حين تكلم شكيب مع والديه بخصوص هذا الموضوع ، كون بيته كبيرا و واسعا ، يسمح بالتدريب على الغناء و وضع أسس لفرقتهم ، و هذا ما لم يرفضه والداه اللذان شجعا الأطفال على تنمية موهبتهم ، كما طلبا من شكيب أن يدعو صديقيه إلى البيت ليتعرفا عليهما و كذا من أجل تحفيزهم جميعا على مواصلة درب ليس بالهين ، و بعدها بيومين حضر مهدي و ابن عمه أسامة إلى بيت شكيب ، بيت أدهش الطفلين الفقيرين الذين لم يسبق لهما و أن شاهدا بيتا بتلك الفخامة ، فهو أليق متألق من مدخله إلى آخر طابق فيه. إنه عبارة عن فيلا من طابقين الواحد أفخم من الآخر ، بيت يحتوي على كل شيء فبمجرد أن دخلا من بابه الرئيسي اندهشا من حديقته الساحرة و ما زادها سحرا مسبحها الذي كان يلمع بمياهه المتلألئة ، محاطا بنباتات مستوردة من دول أوروبية و أخرى آسياوية ! حديقة تجعل المرء يتساءل ما إذا هو بولاية سطيف عروس الشرق ، تلك المدينة المتربعة على الهضاب العليا للجزائر ، أم داخل البيت فيعجز اللسان عن التعبير ، فهناك أثاث تقريبا من كل بلدان العالم ، فهذه قاعة للجلوس مغربية و بجزارها أخرى خليجية و تقابلهما قاعة فرنسية ، بالإضافة إلى مزهريات بريطانية و ستائر سويسرية و سجادات إيرانية ، سبحان اله و كأن ذلك البيت ملتقى دولي