الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر و السبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة و الدعة و انغمسوا في النعيم و الترف و وكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم و أنفسهم إلى واليهم و الحاكم الذي يسوسهم و الحامية التي تولت حراستهم و استناموا إلى الأسوار التي تحوطهم و الحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة و لا ينفر لهم صيد فهم غازون آمنون، قد ألقوا السلاح و توالت على ذلك منهم الأجيال و تنزلوا منزلة النساء و الولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة و أهل البدو لتفردهم عن التجمع و توحشهم في الضواحي و بعدهم عن الحامية و انتباذهم عن الأسوار و الأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم و لا يثقون فيها بغيرهم فهم دائماً يحملون السلاح و يتلفتون عن كل جانب في الطرق و يتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس و على الرحال و فوق الأقتاب و يتوجسون للنبات و الهيعات و يتفردون في القفر و البيداء فدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً و الشجاعة سجنةً يرجعون إليه متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ و أهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون منهم شيئاً من أمر أنفسهم و ذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي و الجهات و موارد المياه و مشاريع السبل و سبب ذلك ما شرحناه و أصله أن الإنسان ابن عوائده و مألوفه لا ابن طبيعته و مزاجه فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً و ملكة و عادة تنزل منزلة الطبيعة و الجبلة و اعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيراً صحيحاً و الله يخلق ما يشاء.