الرؤيا الرؤيا
و أما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها و تصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية و المدارك البدنية و قد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة و تعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً و غير جلي بالمحاكاة و المثال في الخيالي لتخلصه فيحتاج. من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير و قد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال و الخيال و السبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة مستكملة بالبدني و مداركه حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً و يكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية إلا أن نوعها في الروحانية دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن و لا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن و منه خاص كالذي للأولياء و منه عام للبشر على العموم و هو أمر الرؤيا. و أما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي، أعلى الروحانيات و يخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي و هو عندما يعرج على المدارك البدنية و يقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً و إن كان حال النوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة و أربعين جزاً من النبؤة و في رواية ثلاثة و أربعين و في رواية سبعين و ليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات و إنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه و هو للتكثير عند العرب و ما ذهب إليه بعضهم في رواية ستين و أربعين من أن الوحي كان في مبدإه بالرؤيا ستة أشهر و هي نصف سنة و مدة النبوة كلها بمكة و المدينة ثلاث و عشرين سنة فنصف السنة منها جزء من ستة و أربعين فكلام بعيد من التحقيق لأنة إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم و من أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبؤة و لا يعطي حقيقتها من حقيقة النبؤة و إذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد و إن كان عاماً في البشر و معه عوائق و موانع كثيرة من حصوله بالفعل و من أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب و لذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال لم يبق من النبؤة إلا المبشرات قالوا و ما المبشرات يا ر سول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له و أما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك و ذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها و أفعالها بالروح الحيواني الجسماني و هو بخار لطيف مركزه بالتجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس و غيره و ينبعث مع الدم في الشريانات و العروق فيعطي الحس و الحركة، و سائر الأفعال البدنية و يرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده و تتم أفعال القوى التي في بطونه فالنفس الناطقة إنما تدرك و تعقل بهذا الروح البخاري و هي متعلقة به لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف و لما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة و صارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته و قد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين إدراك بالظاهر و هو الحواس الخمس و إدراك بالباطن و هو القوى الدماغية و أن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية التي هي مستعدة له بالفطرة و لما كانت الحواس الظاهرة جسمانية كانت معرضةً للوسن و الفشل بما يدركها من التعب و الكلال و تغشى الروح بكثرة التصرف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة و إنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها و رجوعه إلى الحس الباطن و يعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل فتطلب الحرارة الغزيرة أعماق البدن و تذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيعة مركبها و هو الروح الحيواني إلى الباطن و لذلك كال النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة و رجع إلى القوى الباطنة و خفت عن النفس شواغل الحس و موانعه و رجعت إلى الصورة التي في الحافظة تمثل منها بالتركيب و التحليل صور خيالية و أكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة و ربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية مع منازعتها القوى الباطنية فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه و تقيس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة و المحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير و تصرفها بالتركيب و التحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. و في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: الرؤيا ثلاث رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان و هذا التفصيل مطابق لما ذكرناه فالجلي من الله و المحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك و أضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل و الشيطان ينبوع الباطل هذه حقيقة الرؤيا و ما يسببها و يشيعها من النوم و هي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كل واحد من الإنساني رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة و حصل له على القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم و لا بد و إذا جاز في ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غير من الأحوال لأن الذات المدركة واحدة و خواصها عامة في كل حال و الله الهادي إلى الحق بمنه و فصله.
فصل: و وقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه و إنما تكون النفس متشوقة لذلك الشيء فيقع بتلك اللمحة في النوم لأنها تقصد إلى ذلك فتراه و قد وقع في كتاب الغاية و غير من كتب أهل الرياضيات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه و يسمونها الحالومية و ذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام و هو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر و صحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية و هي تماغس بعد أن يسواد و غداس نوفنا غادس و يذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم. و حكى أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله و ذكره فتمثل له شخص يقول له إن طباعك التام فسأله و أخبره عما كان يتشوف إليه و قد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة و اطلعت بها على أمور كنت أتشوف عليها من أحوالي و ليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها و إنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كال أقرب إلى حصول ما يستعد له و للشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب و لا يكون دليلاً على إيقاع المستمد له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك و تدبره فيما تجد من أمثاله و الله الحكيم الخبير. :فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس و لا يرجعون في ذلك إلى صناعة و لا يستدلون عليه بأثر من النجوم و لا من غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرته التي فطروا عليها و ذلك مثل العرافين و الناظرين في الأجسام الشفافين كالمرايا و طساس الماء و الناظرين في قلوب الحيوانات و أكبادها و عظامها و أهل الزجر في الطير و السباع و أهل الطرق بالحصى و الحبوب من الحنطة و النوى و هذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها و لا إنكارها و كذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها و كذلك النائم و الميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب و كذلك أهل الرياضيات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. و نحن الآن نتكلم عن هذه الإدراكات كلها و نبتدئ منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدةً واحدةً إلى آخرها و نقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الأنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها و ذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة إلى الفعل بالبدن و أحواله و هذا أمر مدرك لكل أحد و كل ما بالقوة فله مادة و صورة و صورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و قبول الصور الكلية و الجزئية ثم يتم نشؤها و وجودها بالفعل بمصاحبة البدن و ما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها و ما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك و التعقل بالفعل فتتم ذاتها و تبقى النفس كالهيولى و الصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة و لذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم و لا بكشف و لا بغيرهما و ذلك أن صورتها التي هي عين ذاتها و هي الإدراك و التعقل لم تتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية و إدراك بذاتها من غير واسطة و هي محجوبة عنه بالانغماس في البدن و الحواس و بشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولاً من الإدراك الجسماني و ربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظةً إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة و الطرق أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ لما بين أفقها و أفقهم من الاتصال في الوجود كما قررنا قبل و تلك الذوات روحانية و هي إدراك محض و عقول بالفعل و فيها صور الموجودات و حقائقها كما مر فيتجلى فيها شيء من تلك الصور و تقتبس منها علوماً و ربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. و لنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه. فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا و طساس المياه و قلوب الحيوان و أكبادها و عظامها و أهل الطرق بالحصى و النوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة و هؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد منها و أشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه و ربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة و ليس كذلك بل لا يزالون ينفرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر و يبدو فيما بينهم و بين سطح المرآة حجاب كأنة غمام يتمثل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليه بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه و أما المرآة و ما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال و إنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك و هو نفساني ليس من إدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف و مثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات و أكبادها و لناظرين في الماء و الطساس و أمثال ذلك. و قد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبر كما أدرك و يزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثالي و الإشارة وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين و العالم أبو الغرائب. و أما الزجر و هو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان و الفكر فيه بعد مغيبه و هي قوة في النفس تبعث على الحرص و الفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع و تكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً بما رآه أو سمعه فيؤديه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوة المتخيلة في النوم و عند ركود الحواس تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته و تجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرؤيا. و أما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد أمزجتهم غالباً و ضعف الروح الحيواني فيها فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواس و لا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص و مرضه و ربما زاحمها على التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به و تضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن حسه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه و الطبع فيها بعض الصور و صرفها الخيال و ربما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنة لا يحصل لهم الاتصال و إن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه و من ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك و أما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك و ليس لهم ذلك الاتصال فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه و يأخذون فيه بالفن و التخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادىء ذلك الاتصال و الإدراك و يدعون بذلك معرفة الغيب و ليس منه على الحقيقة هذا تحصيل هذه الأمور و قد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب فما صادف تحقيقاً و لا إصابة و يظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله و من غير أهله و هذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث و يتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم و في كتب أهل الأدب كثير من ذلك و اشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار و سطيح بن مازن بن غسان و كان يدرج كما يدرج الثوب و لا عظم فيه إلا الجمجمة و من مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعه بن مضر و ما أخبراه به ملك الحبشة لليمن و ملك مضر من بعدهم و لظهور النبؤة المحمدية في قريش و رؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فاخبره بشأن النبؤة و خراب ملك فارس و هذه كلها مشهورة و كذلك العرافون كان في العرب منهم كثير و ذكروهم في أشعارهم قال
فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيب
: و قال الآخر
جعلت لعراف اليمامة حكمه عراف نجد إن هما شفياني
فقالا شفاك الله و الله مالنا بما حملت منك الضلوع يدان
وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة و عراف نجد الأبلق الأسدي. و من هذه المدارك الغيبية ما يصدر لبعض الناس عند مفارقة اليقظة و التباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد و لا يقع ذلك إلا في مبادىء النوم عند مفارقة اليقظة و ذهاب الاختبار في الكلام فيتكلم كأنه مجبور على النطق و غايته أن يسمعه و يفهمه و كذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم و أوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. و لقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنم قتلوا من سجونهم أشخاصاً ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. و ذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أن آدمياً إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم و مكث فيه أربعين يوماً يغذى بالتين و الجوز حتى يذهب لحمة و لا يبقى منه إلا العروق و شؤون رأسه فيخرج من ذلك الدفن فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة و العامة و هذا فعل من مناكير أفعال السحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني و من الناس. من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية ثم محو آثارها التي تلونت بها النسق ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها و يحصل ذلك بجمع الفكر و كثرة الجوع و من المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس و حجابة و اطلعت النفس على المغيبات و من هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات و التصرفات في العوالم و أكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً و شمالاً خصوصاً بلاد الهند و يسمون هنالك الحوكية و لهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة و الأخبار عنهم في ذلك غريبة. و أما المتصوفة فرياضتهم دينية و عرية عن هذه المقاصد المذمومة و إنما يقصدون جمع الهمة و الإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان و التوحيد و يزيدون في رياضتهم إلى الجمع و الجوع التغذية بالذكر فبها تتم و جهتهم في هذه الرياضة لأنه إذا نشأة النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله و إذا عريت عن الذكر كانت شيطانية و حصول ما يحصل من معرفة الغيب و التصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض و لا يكون مقصوداً من أول الأمر لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله و إنما هي لقصد التصرف و الاطلاع على الغيب و أخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك قال بعضهم: من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه لم إذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض و غير مقصود لهم و كثير منهم يفر منه إذا عرض له و لا يحفل به و إنما يريد الله لذاته لا لغيره و حصول ذلك لهم معروف و يسمون ما يقع لهم من الغيب و الحديث على الخواطر فراسة و كشفاً و ما يقع لهم من التصرف كرامة و ليس شيء من ذلك بنكير في حقهم و قد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني و أبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها و المعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف. و قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إن فيكم محدثين و أن منهم عمر و قد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنة يا سارية الجبل و هو سارية بن زنيم كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات و تورط مع المشتركين في معترك و هم بالانهزام و كان بقربه جبل يتحيز إليه فرفع لعمر ذلك و هو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل و سمعه سارية و هو بمكانه و رأى شخصه هنالك و القصة معروفة و وقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة فقال في سياق كلامه و إنما هما أخواك و أختاك فقالت: إنما هي أسماء فمن الأخرى ؟ فقال: إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية فكانت جارية وقع في الموطإ في باب ما لا يجوز من النحل و مثل هذه الوقائع كثيرة لهم و لمن بعدهم من الصالحين و أهل الاقتداء إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبؤة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي حتى أنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها و الله يرزقنا الهداية و يرشدنا إلى الحق.
و من هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء و هم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية و أحوال الصديقين و علم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين و يقع لهم من الأخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك و يأتون منه بالعجائب و ربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم و الولاية لا تحصل إلا بالعبادة و هو غلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء و لا يتوقف حصول الولاية على العبادة و لا غيرها و إذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه و هؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة و لا فسدت كحال المجانين و إنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف و هي صفة خاصة للنفس و هي علوم ضروية للإنسان يشتد بها نظره و يعرف أحوال معاشه و استقامة منزله و كأنة إذا ميز أحوال معاشه و استقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده و ليس من فقد هذه الصفة بعاقل لنفسه و لا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش و لا استحالة في ذلك و لا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف و إذا صح ذلك فأعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة و يلتحقون بالبهائم و لك في تمييزهم علامات منها أن هؤلاء البهاليل لا تجد لهم وجهة أصلاً و منها أنهم يخلقون على البله من أول، نشأتهم و المجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية فإذا عرض لهم ذلك و فسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة و منها كثرة تصرفهم في الناس بالخير و الشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم و المجانين لا تصرف لهم و هذا فصل انتهى بنا الكلام إليه و الله المرشد للصواب.
و قد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية و مقتضى أوضاعها في الفلك و آثارها في العناصر و ما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتناظر و يتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء و هؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء إنما هي ظنون حدسية و تخمينات مبنية على التأثير النجومية و حصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس و نحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله و هؤلاء لو ثبت فغايته حدس و تخمين و ليس مما ذكرناه في شيء. و من هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب و تعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم و محصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالاً ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجية و الفردية و استوائها فيهما فكالت ستة عشر شكلاً لأنها إن كانت أزواجاً كلها أو أفراداً كلها فشكلان و إن كان الفرد فيهما في مرتبة واحدة فقط فأربعة أشكال و إن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال و إن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال جاءت ستة عشر شكلا ميزوها كلها بأسمائها و أنواعها إلى سعود و نحوس شأن الكواكب و جعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية يزعمهم و كأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك و الأوتاد الأربعة و جعلوا لكل شكل منها بيتاً و خطوطاً، و دلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به و استنبطوا من ذلك فنا حاذوا به فن النجامة و نوع فصائه إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما يزعم بطليموس و هذه إنما مستندها أوضاع تحكيمية و أهواء اتفاقية و لا دليل يقوم على شيء منها و يزعمون أن أصل ذلك من النبؤات القديمة في العالم و ربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصنائع كلها و ربما يدعون مشروعيتها و يحتجون بقوله صلى الله عليه و سلم: كان نبي يخط فمن وافق خطة فذاك و ليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك الخط و لا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطة ذلك النبي فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط و أما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا و هذا معنى الحديث و الله أعلم. فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراً ثم يطرحون النقط أزواجاً و يضعون ما بقى من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ثم يولدون منها أربعة أشكال أخرى من جالب العرض باعتبار كل مرتبة و ما قابلها من الشك الذي بإزائه و ما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجتمع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون أخر الستة عشر ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة و النحوسة بالذات و النظر و الحلول و الامتزاج و الدلالة على أصناف الموجودات و سائر ذلك تحكماً غريباً و كثرت هذه الصناعة في العمران و وضعت فيها التآليف و اشتهر فيها الأعلام من المتقدمين و المتأخرين و هي كما رأيت تحكم و هوى و التحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة و لا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع من عالم الحس إلى عالم الروح و لذلك يسمى المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب فالخط و غيره من هذه أن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية و قصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها إشغال الحس لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما، فهو من باب الطرق بالحصى و النظر في قلوب الحيوانات و المرايا الشفافة كما ذكرناه. و أن لم يكن كذلك و إنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة و أنها تفيده ذلك فهذر من القول و العمل و الله يهدي من يشاء. و العلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب و التمطط و مبادىء الغيبة عن الحس و يختلف ذلك بالقوة و الضعف على اختلاف وجودها فيهم فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء و إنما هو ساع في تنفيق كذبه.