الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا و مفسدة للجباية اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف و كثرة العوائد و النفقات و قصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها و نفقاتها و احتاجت إلى مزيد المال و الجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا و أسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله و تارة بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل و تارة بمقاسمة العمال و الجباة و امتكاك عظامهم لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان و تارة باستحداث التجارة و الفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار و الفلاحين يحصلون على الفوائد و الغلات مع يسارة أموالهم و أن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان و النبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق و يحسبون ذلك من إدرار الجباية و تكثير الفوائد و هو غلط عظيم و إدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة فأولاً مضايقة الفلاحين و التجار في شراء الحيوان و البضائع و تيسير أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون و مزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب و إذا رافقهم السلطان في ذلك و ماله أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته و يدخل على النفوس من ذلك غم و نكد ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثم إذا حصل فوائد الفلاحة و مغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات و حصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق و لا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصنافى من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع و لا يرضون في أثمانها إلا القيم و أزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم و تبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة و يمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم و معاشهم و ربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. و ربما يتكرر ذلك على التاجر و الفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه و يتعدد ذلك و يتكرر و يدخل به على الرعايا من العنت و المضايقة و فساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة و يؤدي إلى فساد الجباية فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين و التجار و لا سيما بعد وضع المكوس و نمو الجباية بها فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة و قعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش و إذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية و بين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل ثم إنه و لو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس و لو كان غيره في تلك الصفقات لكال تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية ثم فيه التعرض لأهل عمرانه و اختلال الدولة بفسادهم و نقصهم فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة و التجارة نقصت و تلاشت بالنفقات و كان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك و كان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة ثم يختارونه من أهل الفضل و الدين و الأدب و السخاء و الشجاعة و الكرم ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل و أن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه و لا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع و أن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير و لا مصلحة. و اعلم أن السلطان لا ينمي ماله و لا يدر موجوده إلا الجباية و إدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال و النظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم و تنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال و تنميتها فتعظم منها جباية السلطان و أما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا و فساد للجباية و نقص للعمارة و قد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة و الفلاحة من الأمراء و المتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات و السلع من أربابها الواردين على بلدهم و يفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون و يبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن و هذه أشد من الأولى و أقرب إلى فساد الرعية و اختلال أحوالهم و ربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التجار و الفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها فيحمل السلطان على ذلك و يضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً و لا سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم و لا مكس فإنها أجدر بنمو الأموال و أسرع في تثميره و لا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء و يعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته و سلطانه و الله يلهمنا رشد أنفسنا و ينفعنا بصالح الأعمال و الله تعالى أعلم.