الفصل الحادي و الثلاثون في الخطط الدينية الخلافية لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين و سياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها و حمل الناس عليها و أما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري و قد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر و أن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت و قدمنا أن الملك و سطوته كاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميا و يكون من توابعها و قد ينفر إذا كان في غير الملة و له على كل حال مراتب خادمة و وظائف تابعة تتعين خططاً و تتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عاليةً عليهم فيتم بذلك أمره و يحسن قيامه بسلطانه و أما المنصب الخلافي و إن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يخص بخطط و مراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة و نرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية.
فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة و الفتيا و لقضاء و الجهاد و الحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير و الأصل الجامع و هذه كلها متفرعة عنها و داخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية و الدنيوية و تنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم.
فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط كلها و أرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. و لقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ؟ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس و إذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة. و أخرى دونها مختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس و الجمعة و العيدين و الخسوفين و الاستسقاء و تعين ذلك إنما هو من طريق الأولى و الاستحسان و لئلاً يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً و أما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران و لا تحتاج إلى نظر خليفة و لا سلطانا و أحكام هذه الولاية و شروطها و المولى فيها معروفة في كتب الفقه و مبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي و غيره فلا نطول بذكرها و لقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس. و انظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاة و ترصدهم لذلك في أوقاتها. يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها و أنهم لم يكونوا مستخلفين فيها. و كذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها و استعظاماً لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه قد جعلت لك حجابهً يأبى إلا عن ثلاثة صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير و الأذان بالصلاة فإنه داع إلى الله و البريد فال في تأخيره فساد القاصية فلما جاءت طبيعة الملك و عوارضه من الغلظة و الترفع عن مساواة الناس في دينهم و دنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان و في الصلوات العامة كالعيدين و الجمعة إشارةً و تنويهاً فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس و العبيديين صدر دولتهم.
و أما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم و التدريس و رد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك و منع من ليس أهلا لها و زجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم و بثه و الجلوس لذلك في المساجد فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها و النظر في أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك و إن كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك. على إذن. على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين و المدرسين زاجر من نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيضل به المستهدي و يضل به المسترشد و في الأثر أجراكم على الفتيا أجراكم على جراثيم جهنم فللسلطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد.
و أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي و قطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب و السنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة و مندرجاً في عمومها و كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم و لا يجعلون القضاء إلى من سواهم. و أول من دفعه إلى غيره و فوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء معه بالمدينة و ولى شريحاً بالبصرة و ولى أبا موسى الأشعري بالكوفة و كتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة و هي مستوفاة فيه يقول أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له و آس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً و لا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأمثال و الأشباه و قس الأمور بنظائرها و اجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينةً أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت القضاء عليه فإن ذلك أنفى للشك و أجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرى عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء، فإن الله سبحانه عفا عن الإيمان و درأ بالبينات. و إياك و القلق و الضجر و التأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذكر و السلام.
انتهى كتاب عمر و إنما كانوا يقلدون القضاء لغيرهم و إن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة و كثرة أشغالها من الجهاد و الفتوحات و سد الثغور وحماية البيضة، و لم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس و استخلفوا فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم و كانوا مع ذلك إنما يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء و لا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك. و أما أحكام هذا المنصب و شروطه فمعروفة في كتب الفقه و خصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء و الملوك بالسياسة الكبرى و استقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين و اليتامى و المفلسين و أهل السفه و في وصايا المسلمين و أوقافهم و تزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه و النظر في مصالح الطرقات و الأبنية و تصفح الشهود و الأمناء و النواب و استيفاء العلم و الخبرة فيهم بالعدالة و الجرح ليحصل له الوثوق بهم و صارت هذه كلها من تعلقات وظيفته و توابع ولايته. و قد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم و هي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة و نصفة القضاء و تحتاج إلى علو يد و عظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين و تزجر المتعدي و كأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه و يكون نظره في البينات و التقرير و اعتماد الأمارات و القرائن و تأخير الحكم إلى استجلاء الحق و حمل الخصمين على الصلح و استحلاف الشهود و ذلك أوسع من نظر القاضي.
و كان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس و ربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي أدريس الخولاني و كما فعله المأمون ليحيى بن أكثم و المعتصم لأحمد بن أبي داود و ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف و كان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالطائفة إلى أرض الروم و كذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس فكانت توليه هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب. و كان أيضاً النظر في الجرائم و إقامة الحدود في الدولة العباسية و الأموية بالأندلس و العبيديين بمصر و المغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة و هي وظيفة أخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً و يفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم و يقيم الحدود الثابتة في مالها و يحكم في القود و القصاص و يقيم التعزيز و التأديب في حق من لم ينته عن الجريمة.
ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن و انقسمت وظيفة الشرطة قسمين منها وظيفة التهمة على الجرائم و إقامة حدودها و مباشرة القطع و القصاص حيث يتعين و نصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية و يسمى تارةً باسم الوالي و تارةً باسم الشرطة و بقي قسم التعازير و إقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع ذلك للقاضي مع ما تقدم و صار ذلك من توابع وظيفة ولايته و استقر الأمر لهذا العهد على ذلك و خرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة لأن الأمر لما كان خلافةً دينيةً و هذه الخطة من مراسم الدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب و مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، و لما انقرض شأن الخلافة و طورها و صار الأمر كله ملكاً أو سلطانا صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء لأنها ليست من ألقاب الملك و لا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب و صار الملك لسواهم من أمم الترك و البربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها. و ذلك أن العرب كانوا يرون أن الشريعة دينهم و هل النبي صلى الله عليه و سلم منهم و أحكامه و شرائعه نحلتهم بين الأمم و طريقهم، و غيرهم لا يرون ذلك إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غير عصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة.
و كان أولئك المتأهلون بما أخذهم ترف الدول منذ مئتين من السنين قد نسوا عهد البداوة و خشونتها و التبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم و دعتهم، و قلة الممانعة عن أنفسهم، و صارت هذه الخطط في الدول الملوكية من بعد الخلفاء مختصةً بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار و نزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم و ما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف و الدعة، البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية، و صار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة و أخذها بأحكام الشريعة، لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. و لم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، و إنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية، و لم يكن لهم فيها من الحل و العقد شيء، و أن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل و العقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حل له و لا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم، و تلقي الفتاوى منهم فنعم و الله الموفق. و ربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك و أن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء و القضاة من الشورى مرجوح و قد قال صلى الله عليه و سلم:” العلماء ورثة الأنبياء” فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه و حكم الملك و السلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران و إلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأن الشورى و الحل و العقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك، و أما من لا عصبية له و لا يملك من أمر نفسه شيئاً و لا من حمايتها و إنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. و أما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية و القيام على معرفة أحوالها وأحكامها و إنما إكرامهم من تبرعات الملوك و الأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين و تعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب و أما قوله صلى الله عليه و سلم” العلماء ورثة الأنبياء” فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد و ما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات و كيفية القضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم و لا يتصفون إلا بالأقل منها و في بعض الأحوال و السلف رضوان الله عليهم و أهل الدين و الورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها و تحققاً بمذاهبها. فمن حملها اتصافاً و تحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري و من اجتمع له الأمران فهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين و السلف و الأئمة الأربعة و من اقتفى طريقهم و جاء على أثرهم و إذا انفرد واحد من الأمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة و الفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال بنصها علينا في كيفيات العمل و هؤلاء أكثر فقهاء عصرنا” إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم.”
العدالة: و هي وظيفة دينية تابعة للقضاء و من مواد تصريفه و حقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم و عليهم تحملاً عند الإشهاد و أداء عند التنازع و كتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس و أملاكهم و ديونهم و سائر معاملاتهم و شرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية و البراءة من الجرح ثم القيام بكتب السجلات و العقود من جهة عباراتها و انتظام فصولها و من جهة إحكام شروطها الشرعية و عقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه و لأجل هذه الشروط و ما يحتاج إليه من المران على ذلك و الممارسة له اختص ذلك ببعض العدول و صار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة و ليس كذلك و إنما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة و يجب على القاضي تصفح أحوالهم و الكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم و أن لا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة عليه في ذلك كله و هو ضامن دركه و إذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت الفائدة في تعبين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار و اشتباه الأحوال و اضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف و لهم في سائر الأمصار دكاكين و مصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد و تقييده بالكتاب و صار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها و بين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح و قد يتواردان و يفترقان و الله تعالى أعلم.
: الحسبة و السكة
إما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك و يبحث عن المنكرات و يعزر و يؤدب على قدرها و يحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات و منع الحمالين و أهل السفن من الإكثار في الحمل و الحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها و إزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب و غيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين و لا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النظر و الحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك و يرفع إليه و ليس له إمضاء الحكم في الدعاوي مطلقاً بل فيما يتعلق بالغش و التدليس في المعايش و غيرها في المكاييل و الموازين و له أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف و أمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة و لا إنفاذ حكم و كأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها و سهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء و قد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر و المغرب و الأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة و صار نظره عاما في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك و أفردت بالولاية.
و أما السكة فهي النظر في النقود المتعامل بها بين الناس و حفظها مما يداخلها من الغش أو النقص إن كان يتعامل بها عدداً أو ما يتعلق بذلك و يوصل إليه من جميع الاعتبارات ثم في وضع علامة السلطان على تلك النقود بالاستجادة و الخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد أتخذ لذلك و نقش فيه نقوش خاصة به فيوضع على الدينار بعد أن يقدر ويضرب عليه بالمطرقة حتى ترسم فيه تلك النقوش و تكون علامة على جودته بحسب الغاية التي وقف عندها السبك والتخليص في متعارف أهل القطر و مذاهب الدولة الحاكمة فإن السبك و التخليص في النقود لا يقف عند غاية و إنما ترجع غايته إلى الاجتهاد فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التخليص وقفوا عندها و سموها إماماً و عياراً يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفاً و النظر في ذلك كله لصاحب هذه الوظيفة و هي دينية بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة و قد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثم أفردت لهذا العهد كما وقع في الحبشة.
هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافية و بقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه و أخرى صارت سلطانيةً فوظيفة الإمارة و الوزارة و الحرب و الخراج صارت سلطانية نتكلم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد وظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه و يدرجون أحكامه غالباً في السلطانيات وكذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة و رسومها و بالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة و وظائفها في رسوم الملك و السياسة في سائر الدول لهذا العهد و الله مصرف الأمور كيف يشاء.