الفصل الثلاثون في ولاية العهد إعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة و مشروعيتها لما فيها من المصلحة و أن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم و دنياهم فهو وليهم و الأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته و يتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته و يقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما و ثقوا به فيما قبل و قد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه و انعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمحضر من الصحابة و أجازوه و أوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه و عنهم و كذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة بقية العشرة و جعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد و ناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان و على علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك و أوجبوا طاعته و الملأ من الصحابة حاضرون للأولى و الثانية و لم ينكره أحد منهم فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته.
و الإجماع حجة كما عرف ولايتهم الإمام في هذا الأمر و أن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامه في الولد و الوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة في ذلك رأساً كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد و إن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب و الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس و اتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم و هم عصابة قريش و أهل الملة أجمع و أهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها و عدل عن الفاضل إلى الفضول حرصاً على الاتفاق و اجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع.
و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك و سكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة و ليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك و عدالتهم مانعة منه و فرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه و لم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير و ندور المخالف معروف ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق و يعملون به مثل عبد الملك و سليمان من بني أمية و السفاح والمنصور والمهدي و الرشيد من بني العباس و أمثالهم ممن عرفت عدالتهم و حسن رأيهم للمسلمين و النظر لهم و لا يعاب عليهم إيثار أبنائهم و إخوانهم و خروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فأنهم كانوا على حين لم. تحدث طبيعة الملك و كان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط و آثروه على غيره و وكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه. و أما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك و الوازع الديني قد ضعف و احتيج إلى الوازع السلطاني و العصباني فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد و انتقض أمره سريعاً و صارت الجماعة إلى الفرقة و الاختلاف.
سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك و لم يختلفوا على أبي بكر و عمر فقال: لأن أبا بكر و عمر كانا واليين على مثلي و أنا اليوم وال على مثلك يشير إلى وازع الدين أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق و سماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك و نقضوا بيعته و بايعوا لعمه بن المهدي و ظهر من الهرج و الخلاف وانقطاع السبل و تعدد الثوار و الخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بد من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور و القبائل و العصبيات و تختلف باختلاف المصالح و لكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده و أما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث بالمناصب الدينية و الملك لله يؤتيه من يشاء، و عرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك و أفضل بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء و ينهاه عنه و هو أقل من ذلك و كانت مذاهبهم فيه مختلفة و لما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه فمنهم من رأى الخروج عليه و نقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين و عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما و من اتبعهما في ذلك و منهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة و كثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بنى أمية و جمهور أهل الحل و العقد من قريش و تستتبع عصبية مضر أجمع و هي أعظم من كل شوكة و لا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته و الراحة منه و هذا كان شأن جمهور المسلمين و الكل مجتهدون و لا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر و تحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم.
و الأمر الثاني هو شأن العهد مع النبي صلى الله عليه و سلم و ما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنه و هو أمر لم يصح و لا نقله أحد من أئمة النقل و الذي وقع في الصحيح من طلب الدواة و القرطاس ليكتب الوصية و أن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع و كذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن و سئل في العهد فقال: إن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه و سلم لم يعهد و كذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى على من ذلك و قال إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر و هذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص و لا عهد إلى أحد و شبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون و ليس كذلك و إنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق و لو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة و لكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة و لكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة و احتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أن الوصية لم تقع. و يدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة و العهد بها لم يكن مهما كما هو اليوم و شأن العصبية المراعاة في الاجتماع و الافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين و الإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه و استماتة الناس دونه و ذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم و تردد خبر السماء بينهم و تجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد و الإذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة و الأحوال الإلهية الواقعة و الملائكة المترددة التي وجموا منها و دهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة و الملك و العهد والعصبية و سائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل كما وقع فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً و ذهبت الخوارق و صار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبية و مجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح و المفاسد و أصبح الملك والخلافة و العهد بهما مهماً من المهمات الأكيدة كما زعموا و لم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد و شأن الردة و الفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل و الترك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثم صارت اليوم من أهم الأمور للإلفة على الحماية و القيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة و التخاذل و منشأ الاجتماع و التوافق الكفيل بمقاصد الشريعة و أحكامها.
و الأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة و التابعين فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية و ينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة و المدارك المعتبرة و المجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين و من لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة و لا يتعين المخطئ منها و التأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً و إن قلنا إن الكل حق و إن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ و التأثيم و غاية الخلاف الذي بين الصحابة و التابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية و هذا حكمه و الذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو واقعة على مع معاوية و مع الزبير و عائشة و طلحة و واقعة الحسين مع يزيد و واقعة ابن الزبير مع عبد الملك فأما و واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي و الذين شهدوا فمنهم من بايع و منهم من توقف حتى يجتمع الناس و يتفقوا على إمام كسعد و سعيد و ابن عمر و أسامة بن زيد و المغيرة بن شعبة و عبد الله بن سلام و قدامة بن مظعون و أبى سعيد الخدري و كعب بن مالك و النعمان بن بشير و حسان بن ثابت و مسلمة بن مخلد و فضالة بن عبيد و أمثالهم من أكابر الصحابة و الذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان و تركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه و ظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك.
و لقد كان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط ثم اختلفوا بعد ذلك فرأى علي أن بيعته قد انعقدت و لزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النبي صلى الله عليه و سلم و موطن الصحابة و أرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس و اتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك و رأى الآخرون أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل و العقد بالآفاق و لم يحصر إلا قليل و لا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل و العقد و لا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم و إن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية و عمرو بن العاص و أم المؤمنين عائشة و الزبير و ابنه عبد الله و طلحة و ابنه محمد و سعد و سعيد و النعمان بن بشير و معاوية بن خديج و من كان على رأيهم من الصحابة الذين تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي و لزومها للمسلمين أجمعين و تصويب رأيه فيما ذهب إليه و تعيين الخطأ من جهة معاوية و من كان على رأيه و خصوصاً طلحة و الزبير لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل من الفريقين كالشأن في المجتهدين و صار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كما هو معروف.
و لقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين فقال: و الذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء و قلبه نقي إلا دخل الجنة يشير إلى الفريقين نقله الطبري و غيره فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم و لا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت و أقوالهم و أفعالهم إنما هي عن المستندات و عدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق و لا عرج عليه و إذا نظر ت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان و اختلاف الصحابة من بعد و علمت أنها كانت فتنةً ابتلى الله بها الأمة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم و ملكهم أرضهم و ديارهم و نزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة و الكوفة و الشام و مصر و كان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاةً لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه و سلم و لا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهلية من الجفاء و العصبية و التفاخر و البعد عن سكينة الإيمان و إذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين و الأنصار من قريش وكنانة و ثقيف و هذيل و أهل الحجاز و يثرب السابقين الأولين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك و غضوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم و كثرتهم ومصادمة فارس و الروم مثل قبائل بكر بن وائل و عبد القيس بن ربيعة و قبائل كندة و الأزد من اليمن و تميم و قيس من مضر فصاروا إلى الغض من قريش و الأنفة عليهم، و التمريض في طاعتهم و التعلل في ذلك بالتظلم منهم و الاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عن السوية و العدل في العدل عن السوية و فشت المقالة بذلك و انتهت إلى المدينة و هم من علمت فأعظموه و أبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.
بعث ابن عمر و محمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و أمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً و لا رأوا عليهم طعناً و أدوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار و مازالت الشناعات تنمو و رمي الوليد بن عقبة و هو على الكوفة بشرب الخمر و شهد عليه جماعة منهم و حده عثمان و عزلة ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال و شكوا إلى عائشة و علي و الزبير و طلحة و عزل لهم عثمان بعض العمال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوه بالطريق و ردوه معزولاً ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة و نقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعاله و هو متمسك بالاجتهاد و هم أيضاً كذلك ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان و هم يضمرون خلاف ذلك من قتله و فيهم من البصرة و الكوفة و مصر وقام معهم في ذلك علي و عائشة و الزبير و طلحة و غيرهم يحاولون تسكين الأمور و رجوع عثمان إلى رأيهم و عزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً ثم رجعوا و قد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم و حلف عثمان على ذلك فقالوا مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر من هذا فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس و قتلوه وانفتح باب الفتنة فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع و كلهم كانوا مهتمين بأمر الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته.
ثم نظروا بعد هذا الواقع و اجتهدوا و الله مطلع على أحوالهم و عالم بهم و نحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم و مقالات الصادق فيهم و أما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك و ظنها من نفسه بأهليته و شوكته فأما الأهلية فكانت كما ظن و زيادة و أما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش و عصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش و سائر الناس و لا ينكرونه و إنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق و أمر الوحي و تردد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم و ذهبت عصبية الجاهلية و منازعها و نسيت و لم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية و الدفاع ينتفع بها في إقامة الدين و جهاد المشركين و الدين فيها محكم و العادة معزولة حتى إذا انقطع أمر النبؤة و الخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت و لمن كانت و أصبحت مصر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه و أما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه و كان ظنه القدرة على ذلك و لقد عذله ابن العباس و ابن الزبير و ابن عمر و ابن الحنفية أخوه و غيره في مسيره إلى الكوفة و علموا غلطه في ذلك و لم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله.
و أما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز و مع يزيد بالشام والعراق و من التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد و إن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج و الدماء فأقصروا عن ذلك و لم يتابعوا الحسين و لا أنكروا عليه و لا أثموه لأنه مجتهد و هو أسوة المجتهدين و لا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين و قعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة و كانوا مع يزيد و لم يروا الخروج عليه و كان الحسين يستشهد بهم و هو بكربلاء على فصله و حقه و يقول سلوا جابر بن عبد الله و أبا سعيد الخدري و أنس بن مالك و سهل بن سعيد و زيد بن أرقم و أمثالهم و لم ينكر عليهم قعودهم عن نصره و لا تعرض لذلك لعلمه أنه عن اجتهاد و إن كان هو على اجتهاد و يكون ذلك كما يحد الشافعي و المالكي و الحنفي على شرب النبيذ و اعلم أن الأمر ليس كذلك و قتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء و إن كان خلافه عن اجتهادهم و إنما انفرد بقتاله يزيد و أصحابه و لا تقولن إن يزيد و إن كان فاسقاً و لم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة و اعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً و قتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل و هو مفقود في مسئلتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد و لا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه و الحسين فيها شهيد مثاب و هو على حق و اجتهاد و الصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً و اجتهاد و قد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم و القواصم ما معناه:
إن الحسين قتل بشرع جده و هو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل و من أعدل من الحسين في زمانه في إمامته و عدالته في قتال أهل الآراء و أما ابن الزبير فإنه رأى في منامه ما رآه الحسين و ظن كما ظن و غلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في جاهلية و لا إسلام. و القول بتعين الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع علي لا سبيل إليه. لأن الإجماع هنالك قضى لنا به و لم نجده ها هنا. و أما يزيد فعين خطأه فسقه. و عبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة و ناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله و عدول ابن عباس و ابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير و هم معه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد لأنه لم يحضرها أهل العقد و الحل كبيعة مروان و ابن الزبير على خلاف ذلك و الكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر و إن لم يتعين في جهة منهما و القتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه و قوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده و تحريه الحق هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة و التابعين فهم خيار الأمة و إذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة و النبي صلى الله عليه و سلم يقول: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو الكذب فجعل الخيرة و هي العدالة مختصة بالقرن الأول و الذي يليه فإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم و لا يشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع مهم و التمس لهم مذاهب الحق و طرقه ما استطعت فهم أولى الناس بذلك و ما اختلفوا إلا عن بينة و ما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم و يجعله إمامه و هادية و دليله فافهم ذلك و تبين حكمه الله في خلقه و أكوانه و اعلم أنه على كل شيء قدير و إليه الملجأ و المصير و الله تعالى أعلم.