الفصل الرابع و العشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك و مفسد له في الأكثر إعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته و جسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو أتساع علمه أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه و إنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم فإن الملك و السلطان من الأمور الإضافية و هي نسبة بين منتسبين فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم فالسلطان من له رعية و الرعية من لها سلطان و الصفة التي له من حيث إضافته إليهم هي التي تسمى الملكة و هي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة و توابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم و إن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم و إهلاكاً لهم. و يعود حسن الملكة إلى الرفق فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس و تعديد ذنوبهم شملهم الخوف و الذل و لاذوا منه بالكذب و المكر و الخديعة فتخلقوا بها و فسدت بصائرهم و أخلاقهم و ربما خذلوه في مواطن الحروب و المدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات و ربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة و يخرب السياج و إن دام أمره عليهم و قهره فسدت العصبية لما قلناه أولاً و فسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية و إذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه و لاذوا به و أشربوا محبته و استماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كل جانب و أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم و المدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك و أما النعمة عليهم و الإحسان لهم فمن حملة الرفق بهم و النظر لهم في معاشهم و هي أصل كبير من التحبب إلى الرعية و أعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق في من يكون يقظاً شديد الذكاء من الناس و أكثر ما يوجد الرفق في الغفل و المتغفل و أقل ما يكون في اليقظ لأنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم و إطلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعية فيهلكون لذلك قال صلى الله عليه و سلم “سيروا على سير أضعفكم”. و من هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء، و مأخذه من قصة زياد ابن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق و قال له لم عزلتني يا أمير المؤمنين لعجز أم لخيانة فقال عمر لم أعزلك لواحدة منهما و لكني كرهت أن أحمل فضل عقلك عن الناس، فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء و الكيس مثل زياد بن أبي سفيان و عمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التعسف و سوء الملكة و حمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب و الله خير المالكين و تقرر من هذا أن الكيس و الذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر كما أن البلادة إفراط في الجمود و الطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية و المحمود هو التوسط كما في الكرم مع التبذير و البخل و كما في الشجاعة مع الهوج و الجبن و غير ذلك من الصفات الإنسانية و لهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان فيقال شيطان و متشيطن و أمثال ذلك و الله يخلق ما يشاء و هو العليم القدير.