الفصل الثالث و العشرون في حقيقة الملك و أصنافه الملك منصب طبيعي للإنسان لأننا قد بنا أن البشر لا يمكن حياتهم و وجودهم إلا باجتماعهم و تعاونهم على تحصيل قوتهم و ضرورياتهم و إذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة و اقتضاء الحاجات و مد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم و العدوان بعضهم على بعض و يمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب و الألفة و مقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة و هي تؤدي إلى الهرج و سفك الدماء و إذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع و هو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزغ بعضهم عن بعض و احتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع و هو الحاكم عليهم و هو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم و لا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها و المدافعات لا تتم إلا بالعصبية و هذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات و يحتاج إلى المدافعات. و لا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر و العصبيات متفاوتة و كل عصبية فلها تحكم و تغلب على من يليها من قومها و عشيرها و ليس الملك لكل عصبية و إنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية و يجبي الأموال و يبعث البعوث و يحمي الثغور و لا تكون فوق يده يد قاهرة و هذا معنى الملك و حقيقته في المشهور فمن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان و لملوك العجم صدر الدولة العباسية. و من قصرت به عصبيته أيضاً عن الاستعلاء على جميع العصبيات، و الضرب على سائر الأيدي و كان فوقه حكم غيره فهو أيضاً ملك ناقص لم تتم حقيقته و هؤلاء مثل أمراء النواحي و رؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة و كثيراً ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديين و زناتة مع الأمويين تارة و العبيديين تارةً أخرى و مثل ملوك العجم في دولة بني العباس و مثل ملوك الطوائف من الفرس مع الاسكندر و قومه اليونانيين و كثير من هؤلاء فاعتبره تجده و الله القاهر فوق عباده.