الفصل الثالث: في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية و ذلك أنه إذا كان لعصبية غلب كثير على الأمم و الأجيال و في نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم و انقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج و انتبذ عن مقر ملكه و منبت عزه اشتملوا عليه و قاموا بأمره و ظاهروه على شأنه و عنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه و تناوله الأمر من يد أعياصه و جزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك و خططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر و لا يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليماً لعصبيته و انقياداً لما استحكم له و لقومه من صبغة الغلب في العالم و عقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها و هذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى و العبيديين بأفريقية و مصر لما انتبذ الطالبيون من المشرق إلى القاصية و ابتعدوا عن مقر الخلافة و سموا إلى طلبها من أيدي بنى العباس بعد أن استحكمت الصبغة لبني عبد مناف لبني أمية أولا ثم لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب و دعوا لأنفسهم و قام بأمرهم البرابرة مرةً بعد أخرى فأوربة و مغيلة للأدارسة و كتامة و صنهاجة و هوارة للعبيديين فشيدوا دولتهم و مهدوا بعصائبهم أمرهم و اقتطعوا من ممالك العباسيين المغرب كله ثم أفريقية و لم يزل ظل الدولة يتقلص و ظل العبيديين يمتد إلى أن ملكوا مصر و الشام والحجاز و قاسموهم في الممالك الإسلامية شق الأبلمة و هؤلاء البرابرة القائمون بالدولة مع ذلك كلهم مسلمون للعبيديين أمرهم مذعنون لملكهم و إنما كانوا يتنافسون في الرتبة عندهم خاصة تسليماً لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم و لما استحكم من الغلب لقريش و مضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها و الله يحكم لا معقب لحكمه.