الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة و تمهدت فقد تستغني عن العصبية و السبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب للغرابة و أن الناس لم يألفوا ملكها و لا اعتادوه فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة و توارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين و دول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية و استحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة و رسخ في العقائد دين الانقياد لهم و التسليم و قاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل و لا يعلم خلافه و لأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية كأنه من جملة عقودها و يكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم و دولتهم المخصوصة إما بالموالي و المصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبية و غيرها و إما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها و مثل هذا و قع لبني العباس فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم و ابنه الواثق و استظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم و الترك و الديلم و السلجوقية و غيرهم ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي و تقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم و ملكوها و صار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم و ملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم ثم انقرض أمرهم و زحف آخر التتار فقتلوا الخليفة و محوا رسم الدولة و كذا صنهانجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها و استمرت لهم الدولة متقلصة الظل بالمهدية و بجاية و القلعة و سائر ثغور أفريقية و ربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك و اعتصم فيها و السلطان و الملك مع ذلك مسلم لهم حتى تأذن الله بانقراض الدولة و جاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة فمحوا آثارهم و كذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمرها و اقتسموا خطتها و تنافسوا بينهم و توزعوا ممالك الدولة و انتزى كل واحد منهم على ما كان في ولايته و شمخ بأنفه و بلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك و لبسوا شارته و أمنوا ممن ينقص ذلك عليهم أو يغيره لأن الأندلس ليس بدار عصائب و لا قبائل كما سنذكره و استمر لهم ذلك كما قال ابن : شرف ‌ مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها و معتضد" "ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد فاستظهروا على أمرهم بالموالي و المصطنعين و الطراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر و زناتة و غيرهم اقتداءً بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب و استبد ا بن أ بي عامر على الدولة فكان لهم دول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس و حظ كبير من الملك على نسبة الدولة التي اقتسموها و لم يزالوا في سلطانهم ذلك حتى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم و أزالوهم عن مراكزهم و محوا آثارهم و لم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة و حمايتها من أولها و قد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك و كلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة في أولها و إنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد و استقرار الملك في النصاب و استحكام الصبغة لأهله فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها و خلق جدتها و رجوعها إلى الاستظهار بالموالي و الصنائع ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنه إنما أدرك دول الطوائف و ذلك عند اختلال بنى أمية و انقراض عصبتها من العرب و استبداد كل أمير بقطره و كان في إيالة المستعين بن هود و ابنه المظفر أهل سرقسطة و لم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائة من السنين و هلاكهم و لم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة و بقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه و يستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول في ذلك لم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة و إنه لا يتم إلا لأهل العصبية فتفطن أنت له و افهم سر الله فيه و الله يؤتي ملكه من يشاء.