الفصل العشرون ـ في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة و بالعكس لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه و كان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته و قوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه و إما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير و خلاله أقرب و الملك و السياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنهما للإنسان خاصة لا للحيوان فإذاً خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة و الملك إذ الخير هو المناسب للسياسة و قد ذكرنا أن المجد له أصل يبنى عليه و تتحقق به حقيقته و هو العصبية و العشير و فرع يتمم و جوده و يكمله و هو الخلال و إذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها و متمماتها و هي الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس لم إذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت و الأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد و نهاية لكل حسب و أيضاً فالسياسة و الملك هي كفالة للخلق و خلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم و أحكام الله في خلقه و عباده إنما هي بالخير و مراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع و أحكام البشر إنما هي من الجهل و الشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه و قدره فإنه فاعل للخير و الشر معاً و مقدرهما إذ لا فاعل سواه فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة و أونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد و كفالة الخلق و وجدت فيه الصلاحية لذلك. و هذا البرهان أوثق من أن أول و أصح مبنى فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن و جدت له العصبية فإذا نفرنا في أهل العصبية و من حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي و الأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير و خلاله من الكرم و العفو عن الزلات و الاحتمال من غير القادر و القرى للضيوف و حمل الكل و كسب المعدم و الصبر على المكاره و الوفاء بالعهد و بذل الأموال في صون الأعراض و تعظيم الشريعة و إجلال العلماء الحاملين لها و الوقوف عند ما يحددونه لهم من فعل أو ترك و حسن الظن بهم و اعتقاد أهل الدين و التبرك بهم و رغبه الدعاء منهم و الحياء من الأكابر و المشايخ و توقيرهم و إجلالهم و الانقياد إلى الحق مع الداعي إليه و إنصاف المستضعفين من أنفسهم و التبدل في أحوالهم و الانقياد للحق و التواضع للمسكين و استماع شهوى المستغيثين و التدين بالشرائع و العبادات و القيام عليها و على أسبابها و التجافي عن الغدر و المكر و الخديعة و نقض العهد و أمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم و استحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم و أنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم و غلبهم و ليس ذلك سدىً فيهم و لا وجد عبثاً منهم و الملك أنسب المراتب و الخيرات لعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك و ساقه إليهم و بالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملتهم على ارتكاب المذمومات و انتحال الرذائل و سلوك طرقها فتفقد الفصائل السياسية منهم جملة و لا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم و يتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك و جعل في أيديهم من الخير” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا” و استقرىء ذلك و تتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه و رسمناه و الله يخلق ما يشاء و يختار و اعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل ألو العصبية و تكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء و الصالحين و الأشراف و أهل الأحساب و أصناف التجار و الغرباء و إنزال الناس منازلهم و ذلك أن إكرام القبائل و أهل العصبيات و العشائر لمن يناهضهم في الشرف و يجاد بهم حبل العشير و العصبية و يشاركهم في اتساع الجاه أمر طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه و أما أمثال هؤلاء من ليس لهم عصبية تتقى و لا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم و يتمحض القصد فيهم أنه للمجد و انتحال الكمال في الخلال و الإقبال على السياسة بالكلية لأن إكرام أقتاله و أمثاله ضروي في السياسة الخاصة بين قبيلة و نظرائه و إكرام الطارئين من أهل الفضائل و الخصوصيات كمال في السياسة العامة فالصالحون للدين و العلماء للجاءي إليهم في إقامة مراسم الشريعة و التجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم و الغرباء من مكارم الأخلاق و إنزال الناس منازلهم من الإنصاف و هو من العدل فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة و هي الملك و أن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجوب علاماتها و لهذا كان أول ما يذهب من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم و سلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم و ارتقب زوال الملك منهم “و إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له” و الله تعالى أعلم.