الفصل التاسع و الثلاثون في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث. و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات. و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات. و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه. و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم. و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب. و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم. و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك. و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها. و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان. و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها. و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام. و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها. فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي. و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة. ثم قال: و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه. ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه. و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق. و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه.