الفصل الثالث و العشرون: في علم المنطق و هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعرفة للماهيات و الحجج المفيدة للتصديقات و ذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس. و جميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق و غيره و إنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات و هي مجردة من المحسوسات. و ذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة و هي الكلي. ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض. فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتفقا فيه. و لا يزال يرتقي في التجريد إلى الكل الذي لا يجد كليا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. و هذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها. ثم ينظر بينه و بين الحيوان و يجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما. ثم ينظر بينهما و بين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي و هو الجوهر فلا يجد كليا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد. ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم و الصنائع و كان العلم: إما تصورا للماهيات و يعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه و إما تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص و إما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له و يكون ذلك تصديقا. و غايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي. و هذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح و قد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. و تكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملا جملا و مفترقا مفترقا. و لم تهذب طرقه و لم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه و رتب مسائله و فصوله و جعله أول العلوم الحكمية و فاتحتها. و لذلك يسمى بالمعلم الأول و كتابة المخصوص بالمنطق يسمى النص و هو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صور القياس و أربعة في مادته. و ذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء. فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه و منها ما يكون المطلوب فيه الفن و هو على مراتب فيظهر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده و ما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار و من أي جنس يكون من العلم أو من الفن. و قد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة. و يقال للنظر الأول إنه من حيث المادة و نعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن و يقال للنظر الثاني إنه من حيث الصورة و إنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية: الأول في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات و هي التي ليس فوقها جنس و يسمى كتاب المقولات. و الثاني في القضايا التصديقية و أصنافها و يسمى كتاب العبارة. و الثالث في القياس و صورة إنتاجه على الإطلاق و يسمى كتاب القياس و هذا آخر النظر من حيث الصورة. ثم الرابع كتاب البرهان و هو النظر في القياس المنتج لليقين و كيف يجب أن تكون مقدماته يقينية. و يختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية و أولية و غير ذلك. و في هذا الكتاب الكلام في المعرفات و الحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد و المحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب. و الخامس: كتاب الجدل و هو القياس المفيد قطع المشاغب و إفحام الخصم و ما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات و يختص أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض و هي مذكورة هناك. و في هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه و فيه عكوس القضايا. و السادس: كتاب السفسطة و هو القياس الذي يفيد غلاف الحق و يغالط به المناظر صاحبه و هو فاسد و هذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه. و السابع: كتاب الخطابة و هو القياس المفيد ترغيب الجمهور و حملهم على المراد منهم و ما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. و الثامن: كتاب الشعر و هو القياس الذي يفيد التمثيل و التشبيه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه و ما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية. هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين. ثم إن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة و رتبت رأوا أنة لابد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها و هي الجنس و الفصل و النوع و الخاص و العرض العام، فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت تسعا و ترجمت كلها في الملة الإسلامية. و كتبها و تداولها فلاسفة الإسلام بالشرح و التلخيص كما فعله الفارابي و ابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس. و لابن سينا كتاب الشفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها. ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق و ألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته و هي الكلام في الحدود و الرسوم نقلوها من كتاب البرهان. و حذفوا كتاب المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات. و ألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس. و إن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنة من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادة و حدقوا النظر فيه بحسب المادة و هي الكتب الخمسة: البرهان و الجدل و الخطابة و الشعر و السفسطة. و ربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما و أغفلوها كأن لم تكن هي المهم المعتمد في الفن. ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا و نظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه و اتسع. و أول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب و من بعده أفضل الدين الخونجي و على كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. و له في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار و هو طويل و اختصر فيها مختصر الموجز و هو حسن في التعليم ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفن و أصوله متداولة المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به. و هجرت كتب المتقدمين و طرقهم كأن لم تكن و هي ممتلئة من ثمرة المنطق و فائدته كما قلناه. و الله الهادي للصواب.
اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف و المتكلمين. و بالغوا في الطعن عليه و التحذير منه و حظروا تعلمه و تعليمه. وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي و الإمام ابن الخطيب فسامحوا في ذلك بعض الشيء. و أكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين. فينفرون عنه و يبالغون في إنكاره. فلنبين لك نكتة القول و الرد في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، و ذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية، كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة و ذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأغراض و حدوثها. و امتناع خلو الأجسام عنها، و ما لا يخلو عن الحوادث حادث. و كإثبات التوحيد بدليل التمانع. و إثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد. و غير ذلك من أدلتهم المذكورة في كتبهم. ثم مرروا تلك الأدلة بتمهيد قواعد و أصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد و الزمن الفرد و الخلاء بين الأجسام و نفي الطبيعة و التركيب العقلي للماهيات. و أن العرض لا يبقى زمنين و إثبات الحال و هي صفة الموجود، لا موجودة و لا معدومة و غير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة. ثم ذهب الشيخ أبو الحسن، و القاضي أبو بكر و الأستاذ أبو إسحاق إلا أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها. و لهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد و القدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. و إذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي، و إثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس، التي هي الجنس و النوع و الفصل والخاصة و العرض العام، و هذا باطل عند المتكلمين. و الكلي و الذاتي عندهم إنما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه. أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس و التعريف المبني عليها. و المقولات العشر، و يبطل العرض الذاتي، فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان و تبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل. و هي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس، و لا يبقى إلا القياس الصوري، و من التعريفات المساوئ في الصادقية على أفراد المحمود، لا يكون أعلم منها، فيدخل غيرها، و لا أخص فيخرج بعضها، و هو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع و المنع و المتكلمون بالطرد و العكس، و تنهدم أركان المنطق جملة. و إن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أدلتهم على العقائد كما مر. فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق و عده بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل. و المتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة، و لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، و صح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي و وجوب الماهيات الطبيعية و كلياتها في الخارج، قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية. و إن كان منافيا لبعض أدلتها، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية، كنفي الجوهر الفرد و الخلاء و بقاء الأعراض و غيرها، و يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر و القياس العقلي. و لم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه. و هذا رأي الإمام و الغزالي و تابعهما لهذا العهد، فتأمل ذلك و اعرف مدارك العلماء و مآخذهم فيما يذهبون إليه. و الله الهادي و الموفق للصواب.