الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات، و أن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام و هو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء و المصلح و المفاسد من أبناء جنسه، و هو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا و شاهدا، على ما هي عليه، و هو العقل النظري، و هذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه. و يبدأ من التمييز، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة، معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه في التكوين، من النطفة و العلقة و المضغة. و ما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس و الأفئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا:” و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة”فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط. لجهله بجميع المعارف. ثم تستكمل صورته بالع لم الذي يكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانية في وجودها. و انظر إلى قوله تعالى مبدأ الوحي على نبيه” اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم” أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أن كان علقة و مضغة فقد كشفت لنا طبيعته و ذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي و العلم الكسبي و أشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده. و هي الإنسانية. و حالتاه الفطرية و الكسبية في أول التنزيل و مبدأ الوحي. و كان الله عليما حكيما.