الفصل الثاني في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع و ذلك أن الحذق في العلم و التفنن فيه و الاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه و قواعده و الوقوف على مسائله و استنباط فروعه من أصوله. و ما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً. و هذه الملكة هي في غير الفهم و الوعي. لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد و وعيها مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن و بين من هو مبتدئ فيه و بين العامي الذي لم يعرف علماً و بين العالم النحرير. و الملكة إنما هي للعالم أو الشادي في. الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم و الوعي. و الملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر و غيره كالحساب. و الجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم. و لهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق و جيل. و يدل أيضاً على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، و إذ لو كان من العلم لكان واحداً عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين و المتأخرين و كذا أصول الفقه و كذا العربية و كذا كل علم يتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم. و العلم واحد في نفسه. و إذا تقرر ذلك فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عمن أهل المغرب باختلال عمرانه و تناقص الدول فيه. و ما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع و فقدانها كما مر. و ذلك أن القيروان و قرطبة كانتا حاضرتي المغرب و الأندلس و استبحر عمرانهما و كان فيهما للعلوم و الصنائع أسواق نافقة و بحور زاخرة. و رسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما و ما كان فيهما من الحضارة. فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً كان في دولة الموحدين بمراكش مستفاداً منها. و لم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها و قرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل. و بعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من أفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم و لقن تعليمهم. و حذق في العقليات و النقليات و رجع إلى تونس بعلم كثير و تعليم حسن. و جاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي. كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر و رجع إلى تونس و استقر بها و كان تعليمه مفيداً فأخذ عنهما أهل تونس. و اتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلاً بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام. شارح بن الحاجب و تلميذه و انتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام و تلميذه. فإنه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة في مجالس بأعيانها و تلميذ ابن عبد السلام بتونس و ابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم. ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشدالي و أدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب و أخذ عنهم و لقن تعليمهم. و قرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة و حذق في العقليات و النقليات. و رجع إلى المغرب بعلم كثير و تعليم مفيد. و نزل ببجاية و اتصل سند تعليمه في طلبتها. و ربما انتقل إلى تلمسان عمران المشدالي من تلميذه و أوطنها و بث طريقته فيها. و تلميذه لهذا العهد ببجاية و تلمسان قليل أو أقل من القليل. و بقيت فاس و سائر أقطار المغرب خلواً من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة و القيروان و لم يتصل سند التعليم فيهم فعصر عليهم حصول الملكة و الحذق في العلوم. و أيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة و المناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها و يحصل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون و لا يفاوضون و عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم و التعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم و ما أتاهم القصور إلا قبل التعليم و انقطاع سنده. و إلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، و ظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية و ليس كذلك. و مما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة و هي بتونس خمس سنين. و هذه المدة بالمدارس على المتعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك. و أما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم و ذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين. و لم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية و الأدب. اقتصروا عليه و الحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. و أما الفقه بينهم فرسم خلو و أثر بعد عين. و أما العقليات فلا أثر و لا عين. و ما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران و تغلب العدو على عامتها إلا قليلاً بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها. و الله غالب على أمره. و أما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة و بحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور و اتصال السند فيه. و إن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد و البصرة و الكوفة إلا أن الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك. و انتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، و ما وراء النهر من المشرق، ثم إلى القاهرة و ما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة و عمرانها متصلاً و سند التعليم بها قائماً. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل و في سائر الصنائع. حتى أنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب و أنهم أشد نباهة و أعظم كيساً بفطرتهم الأولى. و أن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. و يعتقدون التفاوت بيننا و بينهم في حقيقة الإنسانية و يتشيعون لذلك و يولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم و الصنائع و ليس كذلك. و ليس بين قطر المشرق و المغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول و السابع فإن الأمزجة فيها منحرفة و النفوس على نسبتها كما مر و إنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدم في الصنائع، و نزيده الآن شرحاً و تحقيقاً. و ذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش و المسكن و البناء و أمور الدين و الدنيا و كذا سائر أعمالهم و عاداتهم. و معاملاتهم و جميع تصرفاتهم. فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه و يتلبسون به من أخذ و ترك حتى كأنها حدود لا تتعدى. و هي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم. و لا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلاً جديداً تستعد به لقبول صناعة أخرى و يتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. و لقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الأنسية و الحيوانات العجم من الماشي، و الطائر مفردات من الكلام و الأفعال يستغرب ندورها و يعجز أهل المغرب عن فهمها فضلاً عن تعليمها و حسن الملكات في التعليم و الصنائع و سائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله و إضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس. إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات. و ما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيساً لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتاً في الحقيقة الإنسانية و ليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحلياً بالذكاء ممتلئاً من الكيس حتى أن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته و عقله و ليس كذلك. و ما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع و الآداب في العوائد و الأحوال الحضرية مالا يعرفه البدوي. فلما امتلأ الحضري من الصنائع و ملكاتها و حسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله و أن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها و جبلتها عن فطرته و ليس كذلك. فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم و الكمال في عقله و فطرته إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع و التعليم فإن لهما آثاراً ترجع إلى النفس كما قدمناه. و كذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم و الصنائع أرسخ رتبة و أعلى قدماً و كان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدمناه في الفصل قبل هذا ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب و ليس ذلك بصحيح فتفهمه و الله يزيد في الخلق ما يشاء و هو إله السموات و الأرض.