الفصل التاسع و العشرون في صناعة الطب و أنها محتاج إليها في الحواضر و الأمصار دون البادية هذه الصناعة ضرورية في المدن و الأمصار لما عرف من فائدتها فإن ثمرتها حفظ الصحة للأصحاء و دفع المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم. و اعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الجامع للطب و هو قوله: “المعدة بيت الداء و الحمية رأس الدواء و أصل كل داء البردة” فأما قوله المعدة بيت الداء فهو ظاهر و أما قوله الحمية رأس الدواء فالحمية الجوع و هو الاحتماء من الطعام. و المعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية و أما قوله أصل كل داء البردة فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة قبل أن يتم هضم الأول. و شرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان و حفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل و ينفذ فيه القوى الهاضمة و الغاذية إلى أن يصير دماً فلا ملائماً لأجزاء البدن من اللحم و العظم، ثم تأخذه النامية فينقلب لحماً و عظماً. و معنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طوراً بعد طور حتى يصيرجزءاً بالفعل من البدن و تفسيره أن الغذاء إذا حصل في الفم و لاكته الأشداق أثرت فيه حرارة الفم طبخاً يسيراً و قلبت مزاجه بعض الشيء، كما تراه في اللقمة إذا تناولتها طعاماً ثم أجدتها مضغاً فترى مزاجها غير مزاج الطعام ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموساً و هو صفو ذلك المطبوخ و ترسله إلى الكبد و ترسل ما رسب منه في المعى ثقلاً ينفذ إلى المخرجين. ثم تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دماً عبيطاً و تطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء. و ترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء و يقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثم ترسلها الكبد كلها في العزوق و الجداول، و يأخذها طبخ الحال الغريزي هناك فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني و تأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحماً ثم غليظة عظاماً. ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق و اللعاب و المخاط و الدمع. هذه صورة الغذاء و خروجه من القوة إلى الفعل لحماً. ثم إن أصل الأمراض و معظمها هي الحميات. و سببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن تمام النضج في طبخه في كل طور من هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج، و سببه غالباً كثرة الغذاء في المعدة حتى يكون أغلب على الحار الغزيري أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول فيستقل به الحار الغريزي و يترك الأول بحالة أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ و النضج. و ترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضاً على إنضاجه. و ربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة. و ترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق و الدمع و اللعاب إن اقتدر على ذلك. و ربما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق و الكبد و المعدة و تتزايد مع الأيام. و كل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ و النضج يعفن فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج و هو المسمى بالخلط. و كل متعفن ففيه حرارة غريبة و تلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى. و اختبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن و في الزبل إذا تعفن أيضاً، كيف تنبعث فيه الحرارة و تأخذ مأخذها. فهذا معنى الحميات في الأبدان و هي رأس الأمراض و أصلها كما وقع في الحديث. و هذه الحميات علاجها بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم يتناول الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه. و ذلك في حال الصحة له علاج في التحفظ من هذا المرض و غيره و أصله كما وقع في الحديث و قد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولد عنه مرض في ذلك العضو و يحدث جراحات في البدن، إما في الأعضاء الرئيسية أو في غيرها. و قد يمرض العضو و يحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلها جماع الأمراض، و أصلها في الغالب من الأغذية و هذا كله مرفوع إلى الطبيب. و وقوع هذه الأمراض في أهل الحضر و الامصار أكثر. لخصب عيشهم و كثرة مآكلهم و قلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية و عدم توقيتهم لتناولها. و كثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل و البقول و الفواكه، رصباً و يابساً في سبيل العلاج بالطبخ و لا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربما عددنا في اليوم ا الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات و الحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. و ربما يكون غريباً عن ملاءمة البدن و أجزائه. ثم إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفصلات. و الأهوية فنشطة للأرواح و مقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم. ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً و لا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن و الأمصار و على قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة. و أما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب و الجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة. و ربما يظن أنها جبلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة. و علاج الطبخ بالتوابل و الفواكه إنما يدعو إلى ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها و يقرب مزاجها من ملاءمة البدن. و أما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات و العفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن. ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كله الهضم و يجود و يفقد إدخال الطعام على الطعام فتكون أمزجتهم أصلح و أبعد من الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب. و لهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه. و ما ذاك إلا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد، لأنه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه سنة الله في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلاً.