الفصل الثالث و العشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع إعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر و لا يأخذها العد. إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضع فنخصها بالذكر و نترك ما سواها. فأما الضروري فالفلاحة و البناء و الخياطة و النجارة و الحياكة، و أما الشريفة بالموضع فكالتوليد و الكتابة و الوراقة و الغناء و الطب. فأما التوليد فإنها ضرورية في العمران و عامة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود و تتم غالباً. و موضوعها مع ذلك المولودون و أمهاتهم. و أما الطب فهو حفظ الصحة لإنسان و دفع المرض عنه و يتفرع عن علم الطبيعة، و موضوعه مع ذلك بدن الإنسان. و أما الكتابة و ما يتبعها من الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته و مقيدة لها عن النسيان و مبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب و مخلدة نتائج الأفكار و العلوم في الصحف و رافعة رتب الوجود للمعاني. و أما الغناء فهو نسب الأصوات و مظهر جمالها للأسماع. و كل هذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم و مجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها. و ما سوى ذلك من الصنائع فتابعة و ممتهنة في الغالب. و قد يختلف ذلك باختلاف الأغراض و الدواعي. و الله أعلم بالصواب.