الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت و انتقصت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه و ربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب و لا يكاد ذلك يتخلف. و السبب فيه أمور: الأول أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس و البعد عن التحذلق. و يدغو ذلك إلى تخفيف الجباية و المغارم. التي منها مادة الدولة فتقل النفقات و يقل الترف فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة و نقصت أحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأن الرعايا تبع الدولة فيرجعون إلى خلق الدولة أما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال و قلة الفوائد التي هي مادة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر و يذهب معه كثير من عوائد الترف. و هو معنى ما نقول في خراب المصر. الأمر الثاني أن الدولة إنما يحصل لها الملك و الاستيلاء بالغلب، و إنما يكون بعد العداوة و الحروب. و العداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين و تكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. و غلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الآخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة و مستبشعة و قبيحة. و خصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة. و فيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصها و هو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث أن كل أمة لا بد لهم من وطن و هو منشآهم و منه أولية ملكهم. و إذا ملكوا ملكاً آخر صار تبعاً للأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول. و أتسع نطاق الملك عليهم. و لا بد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول و تهوي أفئدة الناس من أجل الدولة و السلطان فينتقل إليه العمران و يخف من مصر الكرسي الأول. و الحضارة إنما هي توفر العمران كما قدمناه فتنقص حضارته و تمدنه. و هو معنى اختلاله. و هذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان و للعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة و البصرة، و لبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد و لبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس. و بالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول. الأمر الرابع أن الدولة الثانية لا بد فيها من أهل الدولة السابقة و أشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر هو من فيه غائلتهم على الدولة و أكثر أهل المصر الكرسي أتباع الدولة. أما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو أعيان المصر لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم و تنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشئ في الدولة فهم شيعة لها. و إن لم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل و المحبة و العقيدة. و طبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة فينقلهم من مصر الكرسي إلى و طنها المتمكن في ملكتها. فبعضهم على نوع التغريب و الحبس و بعضهم على نوع الكرامة و التلطف بحيث لا يؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة و الهمل من أهل الفلح و العيارة و سواد العامة و ينزل مكانهم حاميتها و أشياعها من يشتد به المصر وإذا ذهب من المصر أعيانهم على طبقاتهم نقص ساكنه و هو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد من أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة و تحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. و إنما ذلك بمثابة من له بيت على أوصاف مخصوصة فاظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصاف و إعادة بنائها على ما يختاره و يقترحه فيخري ذلك البيت ثم يعيد بناءه ثانياً. و قد و قع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي للملك و شاهدناه. و عرفناه "و الله يقدر الليل و النهار". و السبب الطبيعي الأول في ذ لك على الجملة أن الدولة و الملك للعمران بمثابة الصورة للمادة و هو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها. و قد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور و العمران دون الدولة و الملك متعذر لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك أما الشريعة أو الملكية و هو معنى الدولة و إذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما في مؤثر في اختلال الآخر كما أن عدمه مؤثر في عدمه و الخلل العظيم إنما يكون من خلال الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم أو بني أمية أو بني العباس كذلك. و أما الدولة الشخصية مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران حافظة لوجوده و بقائه و قريبة الشبه بعضها من بعض فلا تؤثر كثير اختلال لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية و الشوكة و هي مستمرة على أشخاص الدولة فإذا ذهبت تلك العصبية و دفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران ذهبت أهل الشوكة بأجمعهم و عظم الخلل كما قررناه أولاً و الله سبحانه و تعالى أعلم.