الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده قد بينا لك فيما سلف أن الملك و الدولة غاية للعصبية و أن الحضارة غاية للبداوة و أن العمران كله من بداوة و حضارة و ملك و سوقة له عمر محسوس كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً و تبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه و نموها و أنه إذا بلغ سن الأربعين و قفت الطبيعة عن أثر النشوء و النمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها و ذلك أن الترف و النعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة و التخلق بعوائدها و الحضارة كما علمت هي التفنن في الترف و استجاده أحواله و الكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه و سائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية و لسائر أحوال المنزل. و للتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة و عدم التأنق فيها. و إذا بلغ أن التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها و لا دنياها أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها و أما دنياها فلكثرة الحاجات و المؤنات ائتي تطالب بها العوائد و يعجز و ينكب عن الوفاء بها. و بيانه أن، المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله و الحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. و قد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه و أشعار حاجته. ثم تزيدها المكوس غلاة لأن الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة في استفحالها و هو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم. و المكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأن السوقة و التجار كلهم يحتسبون على سلعهم و بضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات و أثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة و تخرج عن القصد إلى الإسراف. و لا يجدون و ليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد و طاعتها و تذهب مكاسبهم كلها في النفقات و يتتابعون في الإملاق و الخاصة و يغلب عليهم الفقر و يقل المستامون للبضائع فتكسد الأسواق و يفسد حال المدينة و داعية ذلك كله إفراط الحضارة و الترف. و هذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق و العمران. و أما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد و التعب في حاجات العوائد و التلون بألوان الشر في تحصيلها و ما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق و الشر و السفسفة و التحيل على تحصيل المعاش من وجهه و من غير وجهه. و تنصرف النفس إلى الفكر في ذلك و الغوص عليه و استجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب و المقامرة و الغش و الخلابة و السرقة و الفجور في الأيمان و الربا في البياعات ثم تجدهم لكثرة الشهوات و الملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق و مذاهبه و المجاهرة به و بداوعيه و اطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب و ذوي الأرحام و المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. و تجدهم أيضاً أبصر بالمكر و الخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر و ما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة و خلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله. و يموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة و يجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب و أهملته الدولة من عدادها و غلب عليه خلق الجوار و إن كانوا أهل أنساب و بيوتات و ذلك أن الناس بشر متماثلون و إنما تفاضلوا و تميزوا بالخلق و اكتساب الفضائل و اجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، و فسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه و لا طيب منبته. و لهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت و ذوي الأحساب و الأصالة و أهل الدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم و ما تلونوا به من صبغة الشر و السفسفة و إذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها و انقراضها و هو معنى قوله تعالى:” و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً”. و وجهه حينئذ إن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد و مطالبة النفس بها فلا تستقيم أحوالهم. و إذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة و خربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب حتى أن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور تطيراً به. و ليس المراد ذلك و لا أنه خاصية في النارنج و إنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثم أن النارنج و اللية و السرو و أمثال ذلك مما لا طعم فيه و لا منفعة هو من غاية الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف. و هذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر و خرابه كما قلناه. و لقد قيل مثل ذلك في الدفلى و هو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض و هو من مذاهب الترف. و من مفاسد الحضارة الإنهماك في الشهوات و الاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل و الملاذ و المشارب وطيبها. و يتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا و اللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع. إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين و القيام عليهم فيهلكون، و يؤدي ذلك إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً و هو أشد في فساد النوع. و الزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. و لذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره، و دل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح.
فافهم ذلك و اعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة و الترف و أنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد و أخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة و الترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه و دفع مضاره و استقامة خلقه للسعي في ذلك. و الحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته أما عجزاً لما حصل له من الدعة أو ترفاً لما حصل من المربي في النعيم و الترف و كلا الأمرين ذميم. و كذلك لا يقدر على دفع المضار و استقامة خلقه للسعي في ذلك. و الحضري بما قد فقد من خلق الإنسان بالترف و النعيم في قهر التأديب و التعلم فهو بذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً غالباً بما فسدت منه العوائد و طاعتها في ما تلونت به النفس من مكانتها كما قررناه إلا في الأقل النادر. و إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه و دينه فقد فسدت إنسانيته و صار مسخاً على الحقيقة. و بهذا الاعتبار كان الذين يتقربون من جند السلطان إلى البداوة و الخشونة أنفع من الذين يتربون على الحضارة و خلقها. موجودون في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران و الدولة و الله سبحانه و تعالى كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن.